تقدم laquo;العولمةraquo;- Globalization نفسها منذ الوهلة الأولى كمصطلح مليء بالإيحاءات والاسقاطات، ولعل تضخم وتضارب الاجتهادات حول laquo;العولمةraquo;، لا يكشف عن فهم عميق لآلياتها وأبعادها فضلاً عن دلالتها، أو حتى عدم الفهم لمضامينها laquo;إذ أن الأشياء التي نتحدث عنها كثيرًا - حسب ديدرو - عادة ما تكون معرفتنا بها أقلraquo;، وإنما يكشف بالأحرى عن تكرار نفس الأفكار في معظم هذه المحاولات، التي تخلط بين العولمة وغيرها من المفاهيم والمصطلحات، وتطابق بينها وبين غيرها من الظواهر المختلفة في الوقت نفسه، وهو ما يستلزم ضبط المفاهيم والتصورات منذ البداية.
وينشأ الالتباس عندما نفهم laquo;العولمةraquo; كمذهب سياسي أو نظرية اقتصادية أو عقيدة فلسفيـة، على غرار ما تفهم مثلاً laquo;الليبراليةraquo; أو laquo;الماركسيةraquo;، في حين أن المسألة تتعلق بجملة إجراءات وعمليات حضارية أو تاريخية، هي ثمرة الثورة العلمية والتكنولوجية. وأيضًا حين نخلط بين laquo;العولمةraquo; التي هي نزعة laquo;عالميةraquo; من نوع جديد، وبين عالمية العصر الصناعي أو العصر الزراعي، ذلك لأن العولمة عنوان يندرج تحته تحولات هائلة يتغير معها العالم ببنيته ومشهده، بأدواته ومؤسساته، بمفاهيمه وقيمه، فضلاً عن إيقاعه وزمنه.
صحيح أن التاريخ الإنساني يزخر بالأفكار المتعلقة بـ laquo;تنميطraquo; العالم ككل أو توحيده، على الأقل خلال الألفي سنة الماضية، كذلك الأفكار ذات العلاقة بالعام والخاص التي شكلت جوهر الحضارات الكبرى، بل إن تعبيرًا مثل laquo;الرابطة المحلية الكونيةraquo; أو الرابطة الكونية المحليةraquo; أطلق منذ القرن الثاني قبل الميلاد، على لسان laquo;بوليبيوسraquo; - Polybius - في كتابه laquo;التاريخ العالميraquo; إذ يقول في معرض إشارته لقيام الإمبراطورية الرومانية: laquo;في السابق كانت الأشياء التي لا تقع في العالم لا يربطها ببعضها شيء .. لكنه منذ ذلك الحين، أضحت كل الأشياء موحدة في حزمة مشتركةraquo; .. وذهب المؤرخ الإنجليزي المعاصر laquo;إريك هوبسباومraquo; - Hobsbowm -، إلى أبعد من ذلك حين قال laquo;حتى وقت قريب نسبيًا كان هناك اعتقاد واقعي بأن الإنسانية تتحول بسرعة، من الناحية الفيزيقية، إلى مجتمع واحدraquo;.
بيد أن هذه الأفكار المتعلقة بـ laquo;تنميطraquo; العالم ككل أو توحيده لا تعبر عن laquo;العولمةraquo; بدقة .. أول محاولة تجريبية للإحاطة بفكرة laquo;العولمةraquo; قام بها laquo;بول فاليريraquo; في كتابه laquo;نظرات على عالم اليومraquo; عام 1931، رغم أن كلمة laquo;العولمةraquo; نفسها لم تظهر فيه، ربما لأن الوقت كان جد مبكر، ومع ذلك فقد أحصى laquo;فاليريraquo; خمس سمات أساسية لظاهرة العولمة تميزها عن كل الأفكار السابقة. يقول: laquo;في وقتنا الراهن، أصبحت كل الأراضي الصالحة للسكنى معروفة ومستكشفة، ومسجلة، ومقسمة، فيما بين الأمم. لقد انتهى عصر الأقاليم المجهولة، والأماكن التي لا تخص أحدًا، ومن ثم انتهى عصر التوسع الحر (hellip;hellip;) لقد بدأ زمن العالم المنجز, ويتواصل الجرد العام للموارد وإحصاء اليد العاملة، وتطوير أجهزة الاتصال. فهل هناك ما هو أشد بروزًا وأهمية من هذا الجرد، هذا التوزيع، هذا الترابط فيما بين أطراف الكرة الأرضية؟ إن آثار ذلك هائلة بالفعل. والنتيجة المنطقية لهذا الواقع الرهيب هو قيام تضامن جديد تمامًا، مفرط وفوري، بين المناطق والأحداث (hellip;) إن العادات والطموحات ومشاعر الود التي انعقدت أواصرها خلال التاريخ السابق لا تكف أبدًا عن التواجد. ولكن نقلها عن نحو غير رشيد إلى وسط يختلف هيكله تمامًا، يفقدها مغزاها وتصبح فيه أسبابًا لجهود غير مجدية ولأخطاءraquo;.
على ذلك يمكننا أن نورد أبرز التعريفات للعولمة، والتي تدور حول فكرة دمج laquo;العالم في نسق واحد يشمل كل المجالات، ويجمع أطراف الكرة الأرضية في مجتمع عالمي واحد، فالعولمة هي laquo;كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو من دون قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع واحدraquo; (مالكوم واترز). وهي laquo;اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماشraquo; (رونالد روبرتسون). وهي laquo;مرحلة من مراحل بروز وتطور الحداثة، تتكثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالميraquo; (انتوني جيدنز). وهي laquo;ترتبط شرطيًا بكل المستجدات خصوصًا المستجدات الاقتصادية التي تدفع في اتجاه تراجع حاد في الحدود الجغرافية والثقافية والاجتماعية القائمة حاليًاraquo; (كينشي أوهماي).
كل هذه التعريفات وغيرها، تكاد أن تُكون المقومات الأساسية لتعريف واحد جامع للعولمة، لكنها تظل جزءًا من الحكاية وليس كلها. فقد طرح تعبير laquo;العولمةraquo;-Globalization - في التداول السياسي من قبل مفكرين أمريكان في السبعينبات من القرن العشرين، وبالتحديد كتاب (ماكلوهان) وكينثين فيور حول laquo;الحرب والسلام في القرية الكونيةraquo;، وكتاب laquo;بريجنسكيraquo; بعنوان laquo;بين عصرين: دور أمريكا في العصر الإلكترونيraquo;. وتبلور هذا المصطلح بسرعة، بالتزامن مع تقدم وسائل الاتصال والأقمار الصناعية، وجاءت شبكات الإنترنت بوساطة الكمبيوتر لتضيف مبررًا آخر لتعزيز فكرة laquo;العولمةraquo;، ولعل هذا ما دفع laquo;روبرتسونraquo; في كتابه laquo;العولمةraquo; إلى التأكيد على أنها تطور نوعي جديد في التاريخ الإنساني بعد أن أصبح العالم أكثر ترابطًا وانكماشًا في الوقت نفسهraquo;. و laquo;جون بابيتraquo; الذي رأى أن القوى التكنولوجية والتكتلات الاقتصادية الجديدة ستلعب الدور الحاسم في تشكيل البشرية خلال القرن الحادي والعشرين، وهو ما أشار إليه بالتفصيل laquo;ألفين توفلرraquo; في ثلاثيته الشهيرةquot; laquo;الموجة الثالثةraquo;، laquo;صدمة المستقبلraquo;، laquo;تحولات القوةraquo; والتي أسهمت في تحديد سمات هذه المرحلة الراهنة.