لا حاجة ألى الأشارة مجدّداً ألى أنّه لم تعد هناك أسرار في لبنان. كان الخطاب الأخير للسيّد حسن نصرالله الأمين العام لquot;حزب اللهquot; في غاية الوضوح، أقلّه بالنسبة ألى ضرورة تعطيل الحياة في الوطن الصغير خدمة للسياسة السورية التي باتت تمتلك أداة لبنانية قادرة على أقامة مربّعات أمنية في قسم آخر من بيروت وفي مناطق محيطة بها أو قريبة منها. أوليست التغطية التي يوفّرها quot;حزب اللهquot; للمنظمات الفلسطينية الموالية للنظام السوري والتي تعتبر جزءاً لا يتجزّأ من اجهزته الأمنية وراء أحتفاظ هذه المنظمات بأسلحتها خارج المخيّمات الفلسطينية؟ أوليس quot;حزب اللهquot; وراء أحتلال جزء من وسط بيروت وجعله محرّماً على اللبنانيين العاديين من دون أذن منه؟
في حال كان مطلوباً اختصار الخطاب الأخير لنصرالله بعبارة واحدة، يمكن القول أن الهدف لا يزال أيّاه. أنّه يتمثّل في أسقاط الحكومة التي يترأسّها فؤاد السنيورة من أجل خلق فراغ سياسي في البلد. ولذلك، أكّد الأمين العام لquot;حزب اللهquot; أستمرار الأعتصام الذي يقوم به الحزب في الوسط التجاري لبيروت غير آبه بالأضرار التي تلحق باللبنانيين وبلبنان جراء أحتلال الأملاك الخاصة منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر ونصف شهر. لماذا يجب أسقاط الحكومة والتمسك بصيغة الثلث المعطّل؟ للأجابة عن هذا السؤال يمكن العودة ألى السياسة الكلاسيكية التي أتبّعها النظام السوري في لبنان منذ مطلع السبعينات بغية السيطرة على البلد. تتلخص هذه السياسة بصيغة في غاية البساطة هي أن اللبنانيين غير قادرين على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأنّ ثمة حاجة دائمة ألى قوّة من خارج أسمها ألأجهزة السورية بغية ضبط الوضع في البلد الصغير ومنعه من أن يكون في حال من الفلتان التام.
منذ ما قبل أندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975 وهي حرب بين اللبنانيين وحرب الآخرين على أرض لبنان في الوقت ذاته، كان هناك تشجيع سوري على أيجاد بؤر أمنية مسلّحة خارج سيطرة السلطة اللبنانية. من أين جاءت الأسلحة التي دخلت المخيّمات الفلسطينية ومن أين تدفّق المقاتلون الفلسطينيون على لبنان بعد معرك أيلول- سبتمبر 1970 في الأردن. هل هبط هؤلاء من السماء أم أنّهم أنتقلوا ألى لبنان عبر الأراضي السورية حتى عندما كان الراحل حافظ الأسد لا يزال وزيراً للدفاع وليس رئيساً للدولة أبتداء من أواخر العام 1970 عندما قام بما سميّ quot;الحركة التصحيحيةquot; في السادس عشر من تشرين الثاني- نوفمبر، وهي الحركة التي مكّنته من التخلص من خصومه على رأسهم صلاح جديد...
لم يطرأ أيّ تغيير على الخطوط العريضة للسياسة السورية في لبنان. أختلفت الأدوات مع تغيّر الظروف فقط. الهدف لا يزال واحداً ويتمثّل في الوضع اليد على لبنان بأي شكل من الأشكال عن طريق خلق ما يكفي من المشاكل التي تظهر اللبنانيين منقسمين على أنفسهم. ربّما كان الجديد الوحيد اليوم أن النظام السوري بات مضطرّاً ألى الأعتماد أكثر من السابق على quot;حزب اللهquot; وأدواته المحليَة من نوع النائب ميشال عون ومن على شاكلته من وئام وهّاب وسليمان فرنجيه وما بينهما. ولأنّ هناك ما يمكن ان يعتبر جديداً، دخل quot;حزب الله الحكومة اللبنانية بعد خروج القوات السورية من الأراضي اللبنانية في نيسان- أبريل من العام 2005 تحت ضغط اللبنانيين وذلك بغية تعطيل العمل الحكومي من داخل. كان الهمّ الأول والأخير للنظام السوري المحكمة ذات الطابع الدولي التي ستنظر في قضية أغتيال الرئيس رفيق الحريري. وقد نفّذ الحزب التعليمات السورية بدقّة. أعتكف وزراؤه في أواخر العام 2005 بعد أستشهاد الزميل جبران تويّني ثم قدّموا أستقالتهم في الخريف الماضي عندما طُرح موضوع أقرار مجلس الوزراء للمحكمة ذات الطابع الدولي تمهيداً لأحالته على مجلس النوّاب. وبين الأعتكاف والأستقالة التي جرّ فيها quot;حزب اللهquot; وزراء quot;أملquot; ألى موقفه، كانت حرب الصيف التي أفتعلها الحزب مع أسرائيل من أجل أضعاف لبنان وتقوية النظام السوري.
لم يكن الأعتكاف كافياً. لم تكن الحرب كافية، خصوصاً بعد صدور القرار الرقم 1701 . لم تكن الأستقالة كافية. لم تسقط الحكومة. كان لا بدّ من الأعتصام لأسقاطها. لكنّ الحسابات السورية لم تكن دقيقة هذه المرّة بدليل أنّ الحكومة ما زالت صامدة. ولأنّ الحكومة لا تزال صامدة ستُبذل محاولات جديدة لأسقاطها وستكون هناك مناورات من كلّ الأنواع من أجل أظهار لبنان في مظهر البلد غير القادر على أن يكون حرّاً سيّداً مستقلاًّ. لو لم يكن الأمر كذلك لما كان كبار المسؤولين السوريين، على رأسهم الرئيس بشّار الأسد، يرددون أن سوريا ستدعم ما يتّفق عليه اللبنانيون. بما أن ليس هناك ما يتفق عليه اللبنانيون، ليس هناك أذاً وجود لما يمكن للنظام السوري دعمه في لبنان.
تبدو مهمّة quot;حزب اللهquot; محصورة في أمرين. الأوّل شل لبنان وتعطيل الحياة فيه والآخر أبقاء الخلافات بين اللبنانيين قائمة تنفيذاً لرغبات النظام السوري الذي يبدو عاجزاً عن تكييف سياساته مع الواقعين والدولي اللذين تبدّلا جذرياً في السنوات الأخيرة. مشكلة النظام السوري أنّه يتعاطى مع هذين الواقعين وهو يقرأ من كتاب عفا عنه الزمن. لو لم يكن الأمر كذلك لكانت الحكومة اللبنانية سقطت منذ أشهر عدّة. لماذا لم تسقط الحكومة؟ لو كان النظام السوري يمتلك ما يكفي من الجرأة لطرح هذا السؤال على نفسه ولكان في الأستطاعة الرهان على أن هذا النظام قابل للتطور بما يخدم لبنان وسوريا واللبنانيين والسوريين. المؤسف أن هذا الرهان ليس وارداً، أقلّه في المدى المنظور، ما دام في دمشق من يحلم بعودة نظام الوصاية على لبنان عن طريق سياسة فرّق تسد. لم تسقط الحكومة لأنّها شرعية أوّلاً ولأنّها تحظى بدعم أكثرية اللبنانيين ثانياً ولأن العالم يدرك أن هذه الحكومة في أساس أستمرار لبنان كدولة عربية حرّة مستقلّة... ألى أشعار آخر، لم يتخلّ اللبنانيون عن لبنان ولم يتخل العرب والعالم عنه. ولهذا لم تسقط الحكومة. ومن هنا أهمّية صمودها وتوفير عناصر الصمود لها.