لم تكن صورة الخليجي مثالية في العقل الجمعي للنخب العسكرية/الريفية/ القومية التي سطت على الحكم في عدة بلدان عربية. هؤلاء قدموا الخليجي لشعوبهم بوصفه كائناً بدوياً متخلفاَ، كان تائهاً في صحرائه خلف قطعان الماعز والإبل، قبل ان تتدفق بحور النفط من تحت أقدامه، فيغدو بين ليلة وضحاها من أصحاب الملايين والسيارات الأميركية الفارهة. وهو،اي الخليجي ـ خلاف ذلك ـ غير متعلم، وموالٍ للغرب وغير مكترث بالقضية وهموم الأمة. كان هذا بإختصار رأي الأنظمة القومية العربية في أهل الخليج وحكوماتهم. وكاتب هذه السطور وبوصفه أحد المواطنين الذين جرب فيهم (البعث السوري) نظرياته الوحدوية وتوصيات مؤتمراته القومية منذ ان فتح عينيه على هذه الدنيا منتصف سبعينيات القرن الماضي، لم يجد في البيئة التي طوقت حياته اي شيء ايجابي عن أهل الخليج.
مناسبة استذكار هذا الكلام هو منع السلطات الإماراتية عرض فيلم المخرج الكردي مانو خليل المعنون ( دافيد تولهلدان)، والذي يٌصور يوميات شاب سويسري، هو دافيد رويللر الإبن الثاني لرئيس المحكمة الفيدرالية السويسرية، والذي ترك بلاده منذ 6 اعوام والتحق بصفوف المقاتلين الكرد في قوات حماية الشعب( الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني)، ومرافقة كاميرا المخرج لوالدة دافيد المسنة وهي تخترق ادغال كردستان وجبالها لتصل الى ولدها، في القسم الأعلى من جبال قنديل الشاهقة، البعيدة.
الفيلم الذي كان من المفترض ان يعٌرض ضمن فعاليات مهرجان الإمارات العربية المتحدة( أبو ظبي 7ـ13 آذار) في تظاهرة افلام الطريق، مٌنع بشكل مفاجىء ودون سابق انذار. وعٌلم فيما بعد ان السفارة التركية في الإمارات هي التي تدخلت لمنع عرض الفيلم، بحجة إنه quot;يصور احد الإرهابيين، ويروج لحزب العمال الكردستاني، وممول من جهات إرهابيةquot;. وهو ما نفاه المخرج خليل في احتجاج كتبه للرأي العام على التصرف التركي هذا وخضوع السلطات الإمارتية للضغوط التركية قائلاًquot;ان الفيلم ممول حصريا من قنوات التلفزة السويسريه, الالمانيه و الايطاليه و الفرنسيه مع دعم من وزارة الثقافة السويسريه و مؤسسة دعم الاعمال السينمائيه السويسريه في لوزان ولا تشارك اي منظمة او جهة اخرى في تمويلهquot;.
ان هذا الفعل ليس بغريب على الدولة التركية التي تحارب الشعب الكردي منذ 80 عاماً وتقول علانيّة انها سوف تسعى لمنع اي نشاط كردي حتى لو كان في أفريقيا. ومن المعلوم هنا ان الكرد يعاملون بالحديد والنار في تركيا، وان ملف الشعب الكردي الذي يزيد عن 18 مليون نسمة في يد الجيش وقائده جنرال الحرب يشار بويوكانيت. يتابع المخرج خليل في نداء الإحتجاج الذي اطلقه quot;انني هنا و كمخرج للفيلم ارفع صوتي و احتجاجي على التصرف اللانساني و اللاحضاري لحكومة الجنرالات الاتراك في التدخل في شؤون ثقافة و فن دولة ذات سيادة و حرة لوقف عرض الفيلم في المهرجان و كأن العالم لايزال تابع للامبراطورية العثمانية(...)، وفي النهايه اذ نجحت حكومة جنرالات انقرة في ايقاف عرض فيلمي في الامارات, فأن هذا نجاح لي و لفيلمي بلا شك ودليل انني افعل الصواب, و هذا شرف عظيم لي!quot; .
والحال ان رضوخ المسؤولين في دولة الإمارات للضغوط التركية أمر مخجل ويتناقض مع سياسة شيوخ الإمارة المعلنة في الإنفتاح على كل الآراء والأديان والأعراق والألوان. ان سحب الفيلم السويسري/ الكردي من المهرجان، وهو الذي عٌرض في كبريات دور العرض السويسرية يمثل تراجعاً خطيراً لخط quot;الديمقراطية والتطورquot; الذي يعتمده قادة ورجال الإمارات ويقولون انهم ملزمون بالدفاع عنه وحمايته. وقرار المنع هذا والرضوخ له لهو كسر لجناح المعادلة الإمارتية المتمثلة في quot;النفط والديمقراطيةquot;. وفي هذه الحالة بقي quot;النفطquot; فقط، وغابت quot;الديمقراطيةquot; من على وجه صحراء بني ياس، بعد أن نٌفذ قرار مجرم حرب مثل يشار بويوكانيت، الذي لم يكفيه تدخلاته في السياسة في بلاده فطالت يده لتتدخل في شأن دولة بعيدة مثل الإمارات كذلك.
منع الفيلم من العرض رضوخاً لضغوط من الأتراك وجنرالهم هو إندحار للإستقلالية الإماراتية، وهو في جانب آخر قبول بمنطق الوصاية الذي مازال عسكر أنقرة يعتقدون بنجاحه بعد مرور أكثر من 80 عاماً على إندثار السلطنة العثمانية.
ورضوخ القيادة، أو الدبلوماسية، أو وزارة الثقافة( سمها هنا ما شئت) في دولة الإمارات العربية المتحدة الفيدرالية للطلب التركي، هو عودة غير محمودة عربياً لأحد مظاهر التخلف العثماني، وترجمة قبيحة للعقلية الإنكارية/الإستبدادية العثمانية التي استعمرت العرب 400 عام وكانت سبباً كبيراً في تخلفهم وتشرذمهم الحالي.
وإذا كانت الحكمة الإماراتية تقتضي الإبتعاد عن كل ما يوجع الرأس والتزام الحياد التام، فإن معايير الإستقلال والكرامة تقول ايضاً بعدم السماح لأي جهة بالتدخل في شأن دولة مستقلة ومحترمة مثل الإمارات. سيما وأن رائدة الحيادية في العالم، الدولة السويسرية، هي من مولت الفيلم وانتجته وبثته في كبريات دور عرضها، رغماً عن أنف بويوكانيت وكل قبضايات وبلطجية أنقرة!!.
[email protected]