-1-

كثير من القراء يستغربون تعرضنا وأثارتنا لمواضيع فنية بين حين وآخر، ما كان يجب أن نتعرض لها. وأن علينا أن نتركها للصحافيين ومحرري الصفحات الفنية والمجلات

سلوى اللوباني: رقيب الفكر... ورقيب هز الخصر

الفنية. وأن نتفرغ للكتابات السياسية والفكرية. وهؤلاء نسوا أو جهلوا، بأن فن الغناء جزء مهم من تاريخ الأمة الثقافي. بل هو التاريخ الصادق والحقيقي. انه علامة من علامات تقدمها، أو تأخرها.
إن تناول الكتاب الجادين للقضايا الفنية وخاصة الغنائية منها، التي تعتبر برأي الكثيرين من القضايا الهامشية التي يجب أن لا يلتفت اليها الكتاب الجادون، من مميزات وشهادات هذا العصر المهمة، والتي يجب أن لا تؤخذ على محمل من الهزل والسطحية، وتركها لصغار الصحافيين، ورجال الدين المتشددين الذي يوزنون الفن بميزان خاص اخترعوه، وأصبح خاصاً بهم دون بقية مسلمي الأرض. فإذا أردنا أن نكون جادين وحداثيين ومتحضرين في هذا الموضوع، فعلينا دعوة علماء الاجتماع ومؤرخي الفن لكي يتحدثوا في هذا الموضوع. لا أن يترك هذا الموضوع للمعلقين الصحافيين السطحيين ولرجال الدين المُسيّسين، الذين ينهشون هؤلاء الشباب والصبايا من المغنين والمغنيات، صبحاً ومساءً بكافة الأنياب الوحشية، وكأن القيامة قد قامت، وجاء يوم النشور.

-2-
هذا الفن جزء مهم من تاريخنا المعاصر، وتاريخ الشعوب الأخرى. ففن الكليبات الغنائية الذي نشاهده ونسمعه الآن، وتقوم به مجموعة من الشبان والصبايا المغنيات، منهم من كان له صوت جميل، ومنهن من كان لها قدٌ جميل وصوت جميل، ومنهن من كان لها قدٌ ولا صوت جميلاً لها. فهذا الفن الجديد في دنيا العرب، سيحوي بداخله تاريخنا المنسي في العصر الحديث.

تاريخ ما لم يكتبه التاريخ.

فنحن، أو غيرنا من الباحثين المستشرقين، لا نستطيع أن نفهم جيداً تاريخ الدولة الأموية، أو العباسية، أو العثمانية، إلا من خلال نشاط القيان والجواري، وفنهن، ورقصهن، ونوادرهن. وكانت هذه الجواري والقيان، هن مصدر الهام كثير من الشعراء النوابغ في ديوان الشعر العربي، كعمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس، وبشار بن بُرد، وكثير من الشعراء الذين أُطلق عليهم quot;صرعى الغوانيquot;. وهؤلاء الغواني، كنَّ آبار التاريخ العربي، لذا حرص مؤرخ كبير، ولغوي قدير، كأبي الفرج الأصبهاني على وضع كتابه الموسوعي (الأغاني) (20 جزءاً) ليؤرخ فيه للفن العربي في تلك الحقب، وللسياسة العربية، وللمجتمع العربي كذلك.

-3-
وعندما زار المستشرقون الشرق، وكتبوا عنه، لم يغفلوا الغناء والموسيقى فيه. فعلماء الحملة الفرنسية الذين وضعوا الكتاب الموسوعي عن (وصف مصر) خصصوا اجزاء كاملة للغناء والموسيقى وأدواتها في مصر.
وعندما زار المستشرق البريطاني ادوارد لين مصر، في القرن التاسع عشر، لفت انتباهه في كتابه المهم (عادات المصريين المحدثين في النصف الأول من القرن التاسع عشر) الموسيقى والغناء المصري. وكتب فصولاً مهمة عن ذلك.
وعندما زار الروائي الفرنسي الشهير جوستاف فلوبير الشرق، في القرن التاسع عشر، لم يلفت نظره في هذا الشرق، غير جمال الجواري والقيان، وفنهن وكتب عن هذا كتابات مطولة وعميقة.
وقبل أن يرحل عنا إدوارد سعيد، المفكر والناقد والأكاديمي الجاد، كان قد زار مصر في الثمانينات والتقى بتحية كاريوكا عدة مرات، وكتب عنها دراسة فنية مهمة وعميقة.

-4-
إذن، في كليبات هذا الزمان الغنائية، جزء مهم من تاريخنا. وليست مجرد تعرٍ وتهتك وعرض اللحم الأبيض على المسارح، وفي المهرجانات الغنائية الصيفية. وهي تخرج من جيل يعيش بيننا، ويغني ويرقص من أجلنا، ويكسب الملايين من جيوبنا، وأصبحت كلمات أغانيه هي قاموس الحب العربي الجديد، الذي يملأ فضاءنا، ويردد كلماته أبناؤنا وبناتنا، شيئا أم أبينا، أحببنا أم كرهنا.
فلماذا كل هذا العجب، والشكوى من قلة الطرب؟
فإن كانت هذه الكليبات تافهة كما يقال، فتاريخنا تافة.
وإذا كانت هذه الكليبات رخيصة ومتدنية المستوى كما يقال، فذوقنا العربي متدنٍ ورخيص المستوى.
وإذا كانت هذه الكليبات هي مجرد استعراضات لسوق الغواني كما يقال، فهكذا نحن أصبحنا.
وإذا كانت هذه الكليبات مضيعة للوقت كما يقال، فثمانين بالمائة مما نكتبه تافة ومضيعة للوقت، وكثير مما يقولونه مشائخنا تافه، وسطحي، ومكرر، ومضيعة للوقت، بل هو يزرع الحقد، والحسد، والبغضاء أكثر مما يزرع حب الحياة، وحب الآخر، كما تفعل معظم الكليبات الغنائية التي نسمعها هذه الأيام.

-5-
المعترضون والرافضون لهذه الكليبات الغنائية من كافة الرتب والميادين الدينية والفنية والقومية والسياسية والاجتماعية والاعلامية، يرمون هذه الكليبات بقلة الأدب، والتعرّي، وبأنها نداء الجسد، وغناء الجسد.
وإذا كانت هذه الكليبات هي غناء الجسد، وليست غناء الحناجر والروح، فقد كانت معظم أغاني الأفلام المصرية في عصر (الأبيض والأسود) هي أغاني الجسد. وبدلاً من أن تتعرى المطربة كما يفعلن اليوم تقوم راقصة إلى جانب المطرب أو المطربة، تتراقص تتعرى أكثر بعشرات المرات مما يتعرى مطربو هذا الزمان من الشباب والصبايا. وشاهدوا أفلام (الأبيض والأسود) وخاصة الأفلام الغنائية منها، وشاهدوا الاستعراضات والراقصات التي لا يقدر، ولا يجرؤ أي مخرج أو منتج هذه الأيام أن يكررها. واحمدوا الله على نعمة هذا الزمان، الذي اكتفى بمثل هذه الكليبات فقط، ولم يتعداها إلى ما هو أخدش للحياء، وأبرز للمفاتن، وأهدر للقيم الدينية التي نتباكى عليها اليوم، ولا نتباكى على القيم الاقتصادية والسياسية الدينية المهدورة في العالم العربي.
فمطربو ومطربات اليوم هم أكثر حشمة وحياء ممن كانوا بالأمس.
فعلام هذه الضجة الكبرى علام؟

-6-
كليبات الأغاني هذا الزمان، أقل خطراً بكثير على حياتنا، من كليبات وأشرطة الجماعات الدينية المسلحة، وكليبات اسامة بن لادن والظواهري، ومن يُطلق عليهم، جماعة الصحوة الدينية، والقيلولة الدينية، والوسطية الدينية، والسلفية الدينية، والأصولية الدينية، وكل الجماعات التي تبث الفكر الديني الارهابي.
كليبات هذا الزمان، خفيفة، رشيقة، تعرض لنا أجمل وأرق ما خلق الله من عرب.
يحملون ورداً بدلاً من السيوف، ويغنون للحب، بدلاً من الغناء للموت.
لا يتبعون حزباً سياسياً.
حزبهم هو حزب الحب، واتباعهم في العالم العربي بالملايين من الشباب والصبايا.
حزبهم أقوى الأحزاب العربية، وهذه نعمة كبيرة علينا أن نحمد الله عليها. وهو دليل على أن العالم العربي لا يسلك طريق الارهاب والموت الذي تسير فيه بضع آلاف من الشباب، وعدد لا يتجاوز أصابع اليدين من الشابات، ولكنه يسلك طريق الحب والحياة، الذي تسير عليها ملايين الشباب والصبايا من كل أنحاء العالم العربي، حتى من المجتمعات التي نتصورها متزمتة ومغلقة ومتشددة.
ونظرة واحدة إلى الجمهور الحاشد لهؤلاء الشباب والصبايا من المغنين والمغنيات، الراقصين والراقصات، في مدرجات المهرجانات الغنائية في الصيف، وفي البرامج الغنائية المنوعة التي تبثها بعض الفضائيات، تعطينا فكرة عن أية طريق يسلك الآن العرب:
طريق الارهاب والموت، أم طريق الحب والحياة.
إن كل كليب غنائي، تصدره شركات الانتاج في الأسواق العربية، خير من ألف موعظة وخطبة وكتيب ومنشور، يحارب الارهاب وتجارة الموت.
ولو كنا أهل طرب وغناء بشكل أوسع مما نحن عليه الآن، لما ظهر بين ظهرانينا مثل هؤلاء الاشرار الارهابيون.
السلام عليكم.