هي مثالية ساذجة وغير علمية أن نتصور أن هنالك نظاماً سياسياً معيناً هو الأمثل بصفة مطلقة، أي لجميع الشعوب وفي جميع الأحوال والأزمان، فالأفكار المطلقة اختراع ووهم وأمنية إنسانية جميلة، تريح الإنسان من عناء البحث والتدقيق والاستدلال والابتكار، ليركن إلى يقين مطلق ومريح، ويستوي الأمر إن كان هذا المطلق ميتافيزيقي، أو أيديولوجي ذي صياغة علمية، ذلك أن الانطلاق من قاعدة ليبرالية بذهنية البحث عن مطلقات تقدس لذاتها مثل مفهوم quot;ديموقراطيةquot;، هو توجه غير ليبرالي، ويرتد على الليبرالية ليفرغها من مضمونها، ليحيلها إلى أيديولوجية لا تختلف كثيراً عما أنتجه العقل الإنساني في المراحل الماضية، وهي ما اعتبرنا فشلها أو موتها نهاية للتاريخ، وإيذاناً بعصر سيادة الليبرالية، وتحرير الإنسان من رواسب الماضي وأغلاله.
كثيراً ما يردد الغارقون في مستنقعات الشمولية، من ذوي ذهنية التعلق بأهداب المطلقات، أن هذه الدولة العظمى أو تلك تكيل بمكيالين، أو أنها تتبنى معايير مزدوجة، ولا يعرف هؤلاء المتصايحين أن اتخاذ القرار الأمثل الآن من بين خيارات عدة عملية علمية معقدة، تحتاج في بعض الأحيان إلى أجهزة الكومبيوتر، التي يتم تغذيتها بجميع العناصر والاعتبارات المؤثرة على الحالة محل البحث، كما تغذى العديد من الخيارات الممكنة للقرارات، ونتائجها المحتملة سلباً وإيجاباً على مختلف عناصر الموضوع، ليتم المفاضلة بينها حسابياً ورقمياً، لاختيار عدد أقل من أفضل البدائل، بمعنى أعظمها إيجابيات، وأقلها سلبيات، وتسمى هذه الآلية الحسابية لصناعة القرار House of quality، وعن طريقها يجد متخذ القرار أمامه بدائل واضحة الإيجابيات والسلبيات، ليكون عليه كمتخذ قرار أو سياسي (أو هيئة سياسية) اختيار أنسبها، ويترتب على هذا ما نلاحظه على قرارات الدول الكبرى، مما نعتبره نحن أهل الفراسة والأهواء من قبيل الكيل بمكيالين، ذلك أننا لغرض في نفوسنا أو من قبيل الجهل، نفكر بعقلية التعميم والإطلاق، متجاهلين دقائق وتفصيلات مختلف الحالات محل النظر أو المقارنة، فالعلم لا يوجد لديه مكيال واحد يكيل به كل شيء، الماء والزيت والعسل والتراب، لكن لكل أمر من الأمور وكل حالة مكيالها، الذي يأخذ في الاعتبار طبيعتها الخاصة، كذا الظروف المحيطة بها، ولا نتصور بالطبع أن هذا المنهج في صناعة واتخاذ القرار له عصمة كاملة مانعة لأي احتمال للخطأ، فهذا التصور حكر على أهل الفكر الشمولي المطلق، فاحتمال الخطأ ماثل دائماً، مادام من الوارد عدم الدقة في تغذية المعلومات، وفي الإحاطة بجميع عناصر الموضوع، أو بسبب عدم التوفيق في تقدير القيمة النسبية للعناصر Relative load، مما يؤثر بالضرورة على دقة النتيجة النهاية لعملية التقييم، بالإضافة إلى أن تطبيق هذا المنهج على حالات يحتل العنصر البشري فيها مساحة عريضة، لا يكون له ذات الدقة التي نحصل عليها في حالة التطبيقات المادية الخالصة، أو التي يحتل العنصر البشري فيها حيزاً أقل، فالإنسان كان وسيبقى لغزاً يستعصي على التوصيف والتحديد الشامل المانع، وكذا ردود أفعاله.
من هنا بالتحديد تتأصل الليبرالية كمنهج لا يعترف برأي واحد مطلق الصواب منزه عن الخطأ، حتى لو انطبق عليه توصيف الرأي العلمي بجدارة، فالأمر ليس أخلاقيات تسامح أو سماحية مثالية رومانسية، إنما الإيمان بالعلم ذاته هو الذي يحتم هجر اليقين المطلق، ويستدعي الشك الدائم، والقياس المستمر للنتائج، ومقارنتها بالمستهدف، ليصحح الإنسان قراراته ومناهجه بصور مستمرة وآلية، وبهذا وحده تستحق الأمم توصيف الحداثة والتحضر والعلمانية، وبغيره تكون العشوائية والتخبط والتحجر والاضمحلال.
نعتذر لما قد يبدو مقدمة طويلة، نرى لها ما يبررها، فثقافة الدوجما والمطلقات متفشية حتى في أوساط من يرفعون رايات الليبرالية، فهؤلاء سيسارعون بإشهار سيوفهم في وجه من يتجاسر على القول بتنحية الديموقراطية في الشرق الكبير لبعض الوقت، ريثما يتم تمهيد الأرض لتفعيلها، باعتبارها آلية ليبرالية، ولن يؤدي تطبيقها في بيئة أخرى غير ليبرالية إلى ما نرجوه منها من نتائج، متمثلة في التحديث والتطور الحضاري، وإذا ما خرج علينا أحد هؤلاء بمقولة صارت لدى البعض مقدسة: quot;أن عيوب الديموقراطية لا تعالج إلا بالمزيد من الديموقراطيةquot;، نقول لهم أنكم بهذا الترديد الآلي التعميمي تتخذون من مفهوم الديموقراطية صنماً يعبد، وهذه ليست بأي حال ليبرالية أو علمانية!!
إذا كنا أمام شعب تضطرم صدوره بإرهاصات الحرية والتوق للحداثة والتغيير، لكنه محكوم بنظام سياسي استبدادي، فإن مشكلتنا تكون محصورة مع النظام، ويكون تطبيق آليات الديموقراطية هو الحل الصحيح والمباشر، وقد يترتب على هذا سلبيات مرحلية، هي ما يمكن علاجها بالمزيد من الديموقراطية، وهذا ما حدث مع شعوب أوروبا الشرقية في تسعينات القرن الماضي، كذا شعوب الاتحاد السوفيتي السابق، والتي مازالت تحبو خطواتها الأولى نحو الحداثة، وتحتاج فسحة أطول من الزمن لتعديل مساراتها ومداواة سلبياتها، أما شعوب الشرق الكبير فأمرها يختلف، فنحن أمام شعوب متدهورة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ورغم أن نظمها السياسية استبدادية وشمولية، إلا أنها نسبياً المكون الأكثر قابلية للأداء الحداثي المستنير، وأوضح مثال هنا المملكة الأردنية، فعلى رأسها ملك مستنير يحاول جاهداً تحديث بلاده، فيما القاعدة الشعبية مختطفة في الأغلب الأعم، من قبل تيارات الأصولية الدينية والإرهاب والتكفير والكراهية، ونفس هذا يقال مع تفاوت النسب، على أغلب شعوب الشرق الكبير، من باكستان إلى مراكش!!
في هذه الحالة تكون المشكلة الكبرى والأساسية هي مع الشعوب ذاتها، وتأتي مسألة تطوير الأنظمة السياسية في مرتبة متأخرة، وبالتالي يكون تطبيق الديموقراطية باعتبارها quot;حكم الشعبquot; خطأ فادحاً، مع احترامنا للأساس النظري لنظرية quot;التشكل الذاتيquot; Self organization، والتي تترجم سياسياً quot;الفوضى الخلاقةquot; Constructive chaos، فهي لا تناسب الحالة التي نحن بصددها.
فنظرية quot;التشكل الذاتيquot; والتي بموجبها تظهر في الأنظمة المغلقة تشكيلات جديدة مبتكرة، نتيجة أي تغير ثانوي طفيف، هذه النظرية تعمل في المنظومات التي في حالة توازن (أو عدم توازن) حرج، وهذا التوصيف لا ينطبق على شعوب الشرق الكبير، فهي ليست في حالة توازن (أو عدم توازن) حرج، وإنما هي مختطفة بكاملها (تقريباً) من جماعات الأصولية الدينية، وبالتالي فأي حالة عدم انتظام (فوضى) لن تؤدي إلى ظهور تشكيلات جديدة مبتكرة، وإنما ستكون فرصة ذهبية للتيارات الأصولية لتقبض على زمام الأمور، لتعود حالة الجمود والتردي الأولى، ولكن تحت قيادة وأعلام جديدة أشد وبالاً من الأولى، وأمامنا هنا مثال حالة الفوضى التي أعقبت سقوط شاه إيران ونظامه السلطوي، فلم تتح جماعات التطرف الديني الوقت لحدوث ما نرجوه من تشكيلات جديدة، وإنما سارعت بامتلاك الزمام، واقتياد الشعب الإيراني إلى كهوف لم يخرج منها منذ عام 1979 وحتى الآن، بل وتسوء أموره يوماً بعد يوم، وصار تهديداً خطيراً لجيرانه وللعالم أجمع.
هكذا تتساوى النتائج المترتبة على تطبيق آليات الديموقراطية في مثل تلك الحالات، مع نتائج تطبيق نظرية quot;الفوضى الخلاقةquot;، والعلة في الحالتين هو النظر إلى الديموقراطية والفوضى الخلاقة كمفاهيم مطلقة صالحة لكل زمان ومكان، بغض النظر عن تفصيلات وحقائق الظروف المحيطة، وهذا المنهج كما سبق القول لا يمت إلى العلمانية والمنهج العلمي، وإنما إلى الفكر الدوجماطيقي، الذي يتصور أنه يمتلك دواء سحرياً لكل داء، يصلح هنا كما يصلح هناك، ويصلح أمس واليوم وغداً.
نظرية المستبد العادل قد جربناها بالمنطقة، ولم تثمر غير التدهور كما في الحالة الناصرية، أو الخراب الشامل كما في الحالة الصدامية، وبين هذه وتلك العديد من الحالات العربية التي وصلت بشعوبها إلى ذات النهاية المأساوية، يبقى أمامنا بصيص من أمل في محاولة اللجوء إلى نظام حكم الأوليجاركية Oligarchy، وفيه تقوم نخبة متآلفة بالإمساك بمقاليد الأمور، فإذا ما توفرت للشعوب العربية نخب مستنيرة، تستمد شرعيتها من انبثاقها أو تماهيها مع نظم الحكم القائمة، وبمساندة القوات المسلحة في هذه الدول ndash;كما في حالة تركيا- وبتعضيد ومساندة من المجتمع الدولي ومنظماته، بما يدفع للأمام قضية التنمية في هذه الدول، ويساعد الشعوب على تطوير نظم تعليمها، وتحديث سائر مؤسسات المجتمع، وتقوية المجتمع المدني عبر المنظمات الأهلية، في هذه الحالة يمكن أن يتمكن الحكم الأوليجاركي من تحديث المجتمعات وتهيئتها لتفشي الليبرالية والانفتاح على العالم، بما يسمح في المستقبل باستخدام الآليات الليبرالية، وعلى رأسها الديموقراطية، لتأسيس مجتمعات حداثية بحق.
هنا يثور التساؤل عن مدى توافر مثل هذه النخب الليبرالية القادرة على إدارة حكم أوليجاركي مستنير، واحتمالات وصول هذه النخب إلى السلطة في بلادها . . هذا أمر جدير بالبحث الجاد، لكن أمامنا مؤقتاً الأجيال الجديدة من العائلات الملكية الحاكمة في العديد من الدول العربية، وبعضها وصل للحكم فعلاً، وأمامنا في مصر مجموعة لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، ورغم أن هذه قد تأتي إلينا بما نكره (مبدئياً) وهو التوريث الجمهوري، إلا أنه قد يتحتم علينا الصبر على هذه الغصة في حلوقنا، طالما أن هناك قبس من نور يتراءى عند نهاية النفق المظلم!!
من الحصافة أن نقر أنه مما يخفض سقف الآمال في أداء مثل هذه الأوليجاركيات، المعتبرة امتداداً عضوياً للنظم السياسية القائمة حالياً، أنها ستكون وارثة لآفة الفساد المستشري حالياً، والتي لا يمكن استئصالها بسهولة، خاصة في غياب رقابة شعبية حقيقية، وهو ما لا مفر من أن يكون أحد معالم الحكم والأوليجاركي، كما يثور التساؤل عن مدى الإخلاص والحزم الذي من المتوقع أن تلتزم به تلك النخب، أخذاً في الاعتبار انبثاقها عن نظم أدمنت التلاعب والتلون، والتحرك في اتجاه والتظاهر بالحركة في الاتجاه المضاد، كما اعتادت مسايرة تيارات الأصولية الإسلامية، بل والمزايدة عليها، لمحاولة كسب شعبية تفتقدها بطبيعة تكوينها.
الواقع سيئ ومعقد بما يكفي لأن يحجم أي عاقل عن المغامرة بطرح رأي، متصوراً له ولو الحد الأدنى المطلوب من اليقين، لذا نكتفي هنا بأن نطرح للمناقشة هذا الشعار: quot;أوليجاركية نعم . .ديموقراطية لاquot;.

[email protected]