هل يمكن للمرء أن ينتمي إلى حزب عقيدي ويبقى صاحب رأي مستقل في الوقت نفسه؟ في رأينا أنَّه شرط ضروري أن تكون صاحب رأي مستقل لكي تستطيع أن تختار عقيدة تناسب تطلُّعاتك إلى الحياة وتنتمي إلى حزب تضم فيه طاقاتك إلى طاقات غيرك ممن يشاركونك النظرة نفسها. كما أنَّه شرط أساس أيضًا أن تبقى ذا quot;رأي مستقلquot; في جميع الأوقات لكي تستطيع أن تخدم حزبك وعقيدتك ومجتمعك.
الدافع إلى هذه الأسئلة، تعليق ورد على مقالتي الأخيرة منع علي كاتبه أن أكون ذا رأي مستقل لأنَّني، حسب تعبيره، quot;مؤدلجquot;. والمؤدلج على ما يُستشف من المصدر هو العقيدي. العقيدة تُتَرجم quot;أيديولوجياquot;، فإذا كنت صاحب عقيدة، أي صاحب مبدأ، كنت quot;مؤدلجًاquot;. غير أنَّ لكلمة مؤدلج، على عكس العقيدة والمبدأ، صفة تحقيريِّة. ولعل من اشتقها أرادها على وزن quot;مبرمجquot;، فإذا كنت صاحب عقيدة، اعتبرك مبرمجًا لا طاقة لك على التفكير المستقل.
لا يلام القارئ على استنتاجه. فمعظم الأحزاب العقيديَّة، إن لم يكن كلُّها وقع في مشكلة quot;الأدلجةquot; بمعنى البرمجة. نحن نستعمل تعبيرًا أقسى في وصف هذه الظاهرة هو: quot;السفاح الفكريquot;، Intellectual Incest. وقد حدَّدناه يوم استخدمناه في وصف اليمين المتطرِّف المتحكِّم بمفاصل الإدارة الأميركيَّة في مقالة لنا بالإنجليزية، على أنَّه انغلاق جماعة على نفسها فكريًّا، فلا تعود تسمع سوى رأيها أو رأي متملِّقيها أو المنتفعين منها. وهذا يحدث حين تتمكَّن جماعة أو فرد من السيطرة على حزب أو حركة أو حكومة ما فيُضرب من يُضرب، ويُهمِّش من يُهمِّش، ويُغتال من يُغتال ويُمنع quot;الرأي المستقلquot; بالقوَّة.
بالنسبة إلى العديدين ما تزال كلمتا quot;عقيدةquot; و quot;مبدأquot; كلمتين إيجابيِّتين. ولا شكَّ أنَّ أكثريَّة الناس تفضِّل التعامل مع quot;صاحب مبدأquot; أو quot;صاحب عقيدةquot; عوضًا عن مترجرج لا عقيدة له ولا مبدأ. لإيضاح ما تعني لنا العقيدة، نقتبس ما يلي: quot;العقيدة، مبدأ أو مجموعة مبادئ تشكِّل نقطة انطلاق للفكر. إنَّها بداية وليس نهاية. والمبادئ والعقائد، كما الأديان، هي لخدمة الإنسان وليس العكس. والمبدأ لكي يخدم الخير العام يجب أن يكون شاملاً لا مستثنيًا، فيخدم جميع أبناء المجتمع وليس فئة منهم. ويجب أن يقوم على أساس علمي يخضع لفعل العقل الناقد. والعقائد ndash; أي منطلقات الفكر - تثبت أو تندثر في صراع حر للأفكار.quot; العقائديون إذًا هم من أكثر الناس تمسُّكًا بحريَّة الرأي.
تستقطب الأحزاب العقيديَّة الاجتماعيَّة الناس من مواقع ضيقة إلى مواقع أوسع: من النظرة الطائفيَّة أو القبليَّة إلى النظرة الاجتماعيَّة. هذا التحوُّل يتطلَّب نُظمًا جديدة تتَّخذ شكل دستور مكتوب يلحظ أوَّل ما يلحظ عمليَّة تداول السلطة. فالمنضوون تحت لواء حزب جديد، لا تربطهم العلاقة العشائريَّة ولا تحكمهم المؤسَّسات الدينيَّة. إنَّهم quot;مستقلو التفكيرquot;. الأحزاب الناجحة تطلب من أعضائها أن يكونوا كذلك، وأن يمارسوا عمليَّة نقد مستمرِّة، تثمر تحسينًا مستمرًّا في الأداء والخطط والبرامج التي تصبُّ في نهاية المطاف في خدمة الخير العام.
لمثل هذا، تقوم الأحزاب العقيديَّة التي غالبًا ما يؤسِّسها أصحابها على نظرات أخلاقيَّة وإنسانيَّة عالية، ويضعون لها برامج عمل إصلاحيَّة ويضحُّون في سبيل تحقيقها مدركين أنَّ فيها خيرًا عامًّا ينقل المجتمع من حالة إلى حالة أفضل. أمَّا كيف quot;تتأدلجquot; الأحزاب العقيدية وتتحوَّل إلى مستنقعات من خمول واجترار وقمع لأصحاب التفكير المستقل، فهذا سؤال مهم اختصره العقيدي الأوَّل حين سأل: quot;أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح بماذا يملَّح؟quot;