الحجب في لسان العرب, هو المنعُ ومنه اشتُق الحجاب أي الساتر الذي يمنع ما وراءه. أما في إصطلاح الدين الإسلامي وشرعه، فهو يعني منع الشخص عن ميراثه، إما كله وإما بعضه بوجود شخص آخر.
وحجب الشيء يعني ستره. ويقال حجب بينهما حجباً أي حال. وحجب فلاناً أي منعه من الدخول والميراث(المعجم الوسيط: مادة حَجَبَ).
وquot;المحجوبونquot; في سياق النص القرآني، هم quot;الممنوعونquot; عن رؤية الله تعالى في الآخرة: quot; إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَquot;(المطففين15:83).
واسم الفاعل من هذه المادة(حَجَبَ)، هو الحاجب، أي الذي يمنع الناس من الدخول إلى الرؤساء بدون إذنٍ، أو من يمنع الآخرين من الإرث. أما اسم المفعول منها، فهو المحجوب، أي الممنوع من الدخول أو الممنوع من الإرث.

وعليه فإن المقصود من quot;ثقافة الحجبquot; ههنا، هو quot;ثقافة المنعquot; بكل حولياتها ومشتقاتها الممنوعات، المحجَبات: أي ثقافة quot;ممنوع الدخولquot;، quot;ممنوع الخروجquot;، quot;ممنوع العبورquot;، quot;ممنوع الصرفquot;، quot;ممنوع التعريفquot;، quot;ممنوع التعبيرquot;، quot;ممنوع الكلامquot;، quot;ممنوع الكتابة والقراءةquot;، quot;ممنوع النشرquot;، quot;ممنوع السؤالquot;، quot;ممنوع البحث عن الله وكلامهquot;، quot;ممنوع فحص الدين وإعادة قراءتهquot;، quot;ممنوع مغادرة الماضيquot;، quot;ممنوع الإقامة في المستقبل والقادم من دينه ودنياهquot;...الخ.

في ظل ثقافة الحرية(حرية quot;الأنا والهوَquot;، أو حرية quot;الذات والآخرquot;)، التي تعيشها الأمم quot;المفتوحةquot;، في الغرب المفتوح، بمجتمعاته المفتوحة، ذات السنن والقوانين المفتوحة، والأخذ والرد المفتوحين، ليس لquot;الحاجب والمحجوبquot; ولسليلي quot;ثقافة الحجبquot; وتوابعها، بما لها من إرثٍ ثقيلٍ، في شرقنا quot;الدينيquot; بامتيازٍ ثقيل، أيّ محل من الإعراب. فquot;الحجبquot; باعتباره quot;منعاًquot;، أوquot;سلباًquot;، أو quot;خطفاً ثقيلاًquot; للحرية وأخواتها وبالتالي quot;سطواً مبيناًquot; على أحوالها، هو خارج الإعراب، في ثقافة الغرب التي فصلت quot;عقل الكنيسةquot; عن quot;عقل الدولةquot;، وquot;عقل السماءquot; عن quot;عقل الأرضquot;، وquot;عقل اللهquot; عن quot;عقل الإنسانquot;.
فالغرب قد فصَلَ منذ أكثر من ثلاثة قرونٍ ونصف، حدود الأرض عن حدود السماء، وحدود ثقافة الإنسان عن حدود ثقافة الله، وما لأهل الأرض وماعليهم عن ما لأهل السماء وما عليهم.
فهو، منذ حوالي 359 سنةٍ، قال كلمته الفصل: quot;ما لقيصر لقيصر، وما لله للهquot;. أي قرر علمَنَة ممتلكات الكنيسة أو quot;ممتلكات الرّبquot;. وقد تم استخدام مصطلح العَلمانية (ٍSekularismus/Secularism) لأول مرةٍ، مع بداية توقيع الصلح الشهير/صلح وستفاليا(في ألمانيا الحالية) عام 1648م، الذي طوت أوروبا بإعلانه، صفحة quot;الدولة الغيبيةquot;، وحروبها الدينية الطاحنة، والتي كانت آخرها وأشهرها quot;حرب الثلاثين عاماً
(1618ـ1648) بين البروتستانت والرومان الكاثوليك في الولايات الألمانية، لتذهب الصراعات الدينية مع توقيع تلك الإتفاقية من دون رجعة، ولتبدأ معها مرحلة التأسيس لquot;العقل الوضعيquot;، وquot;الدولة الوضعيةquot;، أي الدولة القومية الحديثة أو الدولة العلمانية التي تحكمها السلطة المدنية بدلاً من السلطة الدينية التي حكمها الإمبراطور، قروناً طويلة، كممثلٍ للرب على الأرض، في quot;دولة الكنيسةquot; أو quot;دولة الربquot;، بإوروبا الدينية السابقة.

أما في الشرق المحكوم بالحُجُب، فالأمر مختلفٌ تماماً، حيث الحَجب على امتداد ثقافته، قائمٌ على قدمٍ وساق، فهناك الدين الحاجب والدين المحجوب، والسماء الحاجبة والسماء المحجوبة، والعقل الحاجب والعقل المحجوب، والكتاب الحاجب والكتاب المحجوب، والدولة الحاجبة والدولة المحجوبة، والقوم الحاجب والقوم المحجوب، والحق الحاجب والحق المحجوب...الخ.

لا شك أن للضرورة أحكامها، كما أن للقاعدة استثناءاتها، ولكن المأساوي في حالة شرقنا الغارق في شئون ممالك السماء، وأخبار جند السماء وأحزابه، وانتصارات السماء، وجنان السماء، والنوم في أحضان جواري السماء، هو أن الأحكام في quot;ضرورات الشرقquot; الحاضرة دائماً وأبداً، تعني(أو هكذا يجب أن تعني) أن نعيش ونموت بالضرورة، و نقود وننقاد بالضرورة، ونأمر ونؤتمَر بالضرورة، ونعبد ونُستعبَد بالضرورة، وندين ونتدين بالضرورة، ونحكم ونُحكم بالضرورة، هذا فضلاً عن أن quot;الشرق الإستثناءquot; هو أكبر وأكثر بكثير من quot;الشرق القاعدةquot;.

والحال، فإن الشرق لا يسأل ولا يُسأل، لأن السؤال محجوب.
وهو لا يشك ولا يُشَك به، لأن العقل محجوب.
وتاريخه لا يقرأ ولا يُقرَأ، لأن القراءة محجوبة.
وكتبه لا تحرِر ولا تُحرَر، لأن الحرية محجوبة.
وثقافته لا تحاوِر ولا تُحاوَر، لأن الحوار محجوب.
وقديمه مقدسٌ يعلو ولا يُعلى عليه، لأن القادم محجوب.
وتشريعاته السماوية تحكِم ولاتُحكَم، لأن القانون الوضعي محجوب.
وquot;رجاله قوامون على نسائهquot; ولا يُقام عليهم، لأن النساء (ناقصات العقل والدين) محجوبات.

ثقافتنا، إذن، نحن سليلو الشرق، حُجاباً ومحجوبين، تُسمى بكل شيء، ولكنها تتجنب تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
ثقافتنا، يُفكَر بها ولكنها لا تفكِر.
هي كُتِبت و وتُستكتَب، ولكنها لا تكتب.
هي ثقافةٌ نحملها، ولكنها لا تحملنا.
هي ثقافةٌ تبنّتنا دون أن تبنينا.
هي ثقافةٌ قرّأتنا ودخلتنا كما تشاء، كي لا نقرأها ولا ندخلها كما نشاء.
هي تُعاش وتعتاش ولكنها لا تعيش.
هي الشرقية quot;المؤمنةquot;، لا تعيش العقل، وإنما تعتاش من الألف إلى الياء، على نتائجه(نتائج quot;العقل الكافرquot; في ثقافات الآخرين، حصراً) وتتوسل لماديات quot;شيطانهquot;، فتركب سياراته، وتطير في طائراته، وتنعم بتقنياته، وتسعى لجناته...
هي ثقافةٌ تعتاش على العقل ولا تعيش به وفيه.
هي تسعى بكل جهدها للهروب من العقل والخروج من وضعياته، كي تصنع quot;مافوق العقلquot;، من غيبياتٍ، وروحانياتٍ، وماوراء وضعياتٍ، وقصصٍ للحاجوج والماجوج.
هي ثقافةٌ علّمتنا في الآن عينه؛ أن نريدها ولا نريدها؛ أن نكونها ولا نكونها؛ أن نصلي لها ولا نصلي لها، أن نعبدها ولا نعبدها...الخ.
وعليه نحن الشرقيون quot;الثقافيونquot;، تعلّمنا كيف أن نكون ذواتنا وأن لا نكونها في الآن نفسه. نحن أتقننا كيف أن نكون الشرق وضده؛ وأن نكون ذواتنا وضدها.
فنحن نتضامن مع دم شيخ quot;الحقيقة الغائبةquot; فرج فودة مثلاً، في ذات الوقت الذي نغيب ونغيِّب الآخرين في ذات الحقيقة، وذات الغياب.
ثقافتنا، هي ثقافة الغيب والغياب والتغييب.
ثقافتنا، هي ثقافة الحجب والحجاب والتحجيب.
حقيقتنا غائبة، ثقافتنا غائبة، تواريخنا غائبة، جغرافياتنا غائبة، شرقنا غائب، ونحن به وفيه لغائبون أو مغيّبون.
إنا للشرق، وإنا فيه لحاجبون أو محجوبون.

[email protected]