كنت طفلاً حين وقعت هزيمة يونيو التي يجري تدليلها باسم quot;النكسةquot;، ومع ذلك أذكر كيف هبّ من تبقى من رجال قريتي في صعيد مصر لطلاء كل شئ باللون الأزرق حتى لا تظهر الأضواء للطائرات الإسرائيلية التي كانت تقصف كل مكان في مصر، ومع ذلك كان الأمر بالنسبة لنا نحن الأطفال يبدو مثيراً، رغم الطوارئ التي أعلنتها الأمهات ومحاولات منعنا من مغادرة المنازل، والوجوم الذي كان يخيم على الآباء.
كان هذا الأزرق هو أبرز ما اختزنته الذاكرة، وحين تراكمت الخبرات والسنوات، بدأت أدرك أبعاد تلك المأساة أو المهزلة، وسمعت شهادات من عاشوا quot;النكسةquot; ومن صنعوها، من تربحوا منها ومن خسروا، وبعيداً عن الأسماء الشهيرة الرنانة التي تتحدث كل عام عن النكسة تبريراً أو هجوما، أسوق هنا شهادة فلاح من قريتي اسمه quot;زكرياquot;، كان مضرب الأمثال في القوة المقترنة بطيبة القلب، ويقظة الضمير.
قال الرجل الستيني: خدمت في الجيش ثمانية أعوام مجنداً في إحدى وحدات الصاعقة، وكانت تضم شباباً quot;ياكلوا الزلطquot;، ولا فرق فيها بين ضابط وجندي، عشنا معاً أوهام القوة قبل النكسة، حتى تجرعنا مرارة الحقيقة ونحن نقطع سيناء سيراً على أقدامنا، وبدا الأمر كأنه يوم القيامة. صحراء تعج بالثعابين وطائرات تحوم فوق رؤوسنا، حتى وصلنا لقرية على الجانب الآخر، وحين رأينا لأول مرة الفلاحين أدركنا أننا نجونا، ففي الصحراء يتساوى الثعبان والأعرابي والطائرة الإسرائيلية، فكل منهم لا يحمل لنا سوى الموت
سألته عما جرى، فقال quot;المصيبة أن شيئاً لم يحدثquot;، وصمت قليلاً قبل أن يسألني: لماذا لم يحاكموا المتسببين في النكسة؟
قلت له إنهم حوكموا بالفعل، فابتسم هازئاً وقال: كنت أحب ناصر مثل أبي، كنت أطرب لسماع خطبه، ولكن بعد أن عدنا مهزومين دون إطلاق رصاصة واحدة، وجدت الملايين يتظاهرون مناشدين إياه ألا يتنحى، وساعتها أحسست أن quot;أبيquot; هذا الذي أحبه، ضبط متلبساً بمواقعة أختي أو زوجتي، ومنذ هذه اللحظة لم أعد أستطيع أن أحبه، وحين مات لم أبك عليه، بل دعوت الله أن يحاسبه حساباً مراً، لأنه المسؤول الأول عما جرى، فقد وضع الخونة واللصوص حوله، وكان طبيعياً أن نهزم، لم أكن أعرف شيئاً عن السياسة قبل النكسة، بل كنت أكره حتى سماع نشرة الأخبار، كنت مفعماً بالثقة أننا لاشك منتصرون، وأن ناصر وعامر وكل الضباط الأحرار سيحملون السلاح معنا، وحين وقع الواقعة اكتشفت أننا كنا واهمين، فناصر لا يجيد سوى الخطابة، وعامر لا يعرف سوى الملذات وانتصارات غرف النوم، والضباط مشغولون بالقبض على خصومهم، ونهب قصور الأثرياء واصطياد الفنانات، وبدأنا نراجع أنفسنا في كل ما كان قيل لنا، وبدأنا نتابع الأحداث من إذاعة لندن، ولم نعد نصدق إذاعاتنا، وانفرط عقد الثقة بيننا وبين السلطة للأبد .
يروي زكريا، أنه حين عاد لقريته بعد تسريحه من الخدمة فيقول: quot;كنت أحلم بأن توفر لي الحكومة وظيفة عامل في مدرسة، أو حتى مؤذن في الأوقاف، وحفيت قدماي على مكاتب المسؤولين، وفي كل مكان أردد على مسامع الموظفين أنني خضت كافة المعارك من حرب اليمن إلى النكسة فالاستنزاف وصولاً لنصر أكتوبر، ولم يكترث أحد، بل كانوا يسخرون مني، فآثرت السلامة وعدت إلى الزراعة والفلاحة، والحمد لله، أنا الآن أفضل ممن كنت أحلم بأن أكون منهم، وأبنائي طبيب ومعلم ومحام، وعوضني الله خيراً عما تكبدته، ولكنني أصبحت معارضاً حتى النخاع، وأشجع أحفادي على متابعة السياسة، لكنهم للأسف شأن كل أبناء هذا الجيل لا يكترثونquot;، ويبتسم مستدركاً: quot;لكن هناك أولاد زي الفل مش ممكن يصدقوا الحكومة زيناquot;
ويمضي زكريا قائلاً: لعل هذا الجيل محق بابتعاده عن السياسة، فلا شئ تغير، فإذا كان ناصر مسؤولاً عن النكسة، فإن مبارك مسؤول عما يعانيه الملايين الآن من أزمات الفقر والبطالة والفساد والتعصب الأعمى الذي انتشر في مجتمع طالما اشتهر بالتسامح، وأنا ضد الذين يبرئون الحاكم ويتهمون بطانته، كما قيل حينما كان الناس يكتفون باتهام بطانة ناصر بينما هو برئ، ولو صح ذلك الأمر فإن الحاكم يصبح كالزوج المخدوع، آخر من يعلم، وابتسم مختتماً quot;دول بيشتغلوا لنا في الأزرقquot;، ومرة أخرى تذكرت quot;الأزرقquot; .
[email protected]