المالكي وصدام وآخرون أيادي حديدية لبناء عراق من ظلام

أفرز حادث جديد في الساحة العراقية، تساؤلات ليست جديدة، ونبشاً في الذاكرة العتيدة التي اصابها الوهن من شدة التقلبات المتسارعة والأحداث المكتظة والمتلاحقة.
الحادث هو تشكيل جبهة سياسية، بين العرب، سنة وشيعة وبعض القوى الكُردية، منها الاتحاد الاسلامي الكُردستاني و عشائر كُردية تأطرت في حزب العدالة والحرية فضلاً عن الجبهة التركمانية وقوى سياسية اخرى. الجبهة محاولة لخلق تغير جديد في الوضع العراقي الدموي الفوضوي المنهار الى القعر، ولكن على خطى الذين غيّروا الأوضاع من سيئ الى أسوأ، ومن محنة الى أخرى.
الجبهة كانت كفراً بواحاً بالنسبة للسلطة (الديموقراطية) في العراق والتي تمتطي صهوتها قوى شيعية عربية واحزاب كُردية (الغلبة) وقوى أخرى مشتتة منها سنية ومنها يسارية وأقرباء في النسب السياسي الى العهد البائد، فضلاً عن أحزاب وجماعات متفرقة سياسياً وعقائدياً وفكرياً.
الكفر البواح استدعى السيد ابو اسراء المالكي، رئيس الوزراء، وممثل حزب الدعوة في دمشق سابقاً، الى توجيه نداء حديدي (وطني) الى الدرك والعساكر والميليشيات الحكومية ضرب (الجبهة الجديدة) بيد من حديد. السيد المالكي المستند على (الوحدة الوطنية الطاهرة) التي استند عليها صدام حسين و(ناضل) بيد من حديد لضرب السيد المالكي والآخرين في السلطة، آوان معارضتهم في دول الجوار وفي الغرب للسلطة الدكتاتورية التي قادها صدام والبعث، يقف على الشرفة نفسها التي كان أبو عدي يطلّ في خلالها طلّة حرّم علينا طفولتنا ومتعتنا ــ طويلاً ــ بابتساماته العريضة الثقيلة وبجانبها يدٌ من حديد. الحجة في استعمال اليد الحديدية تجاه الانسان (المبني من لحم ودم واحساس)، بين السيد المالكي والرئيس الأسبق صدام حسين، هي الانضواء تحت هيمنة دول تهوي التدخل في شؤون العراق والعبث بأمنه، واقتياده نحو الدمار.
السيد المالكي ومعه القوى التي تحكم العراق الآن، انضوى تحت عباءات الدول المعادية لنظام البعث في العراق، فكانت النتيجة ان المالكي اطاح بصدام وعلّقه هو ويده الحديدية على المشنقة، بمساندة أيادي حديدية أخرى ولكن ليست عراقية وانما قوى خارجية شاءت التدخل في شؤون العراق.
اليوم تبحث قوىً عراقية عن دعم وسند قوى صديقة أو معادية للسيد المالكي وسلطته، علّها تجدُ يداً حديدية لمواجهة يد المالكي الحديدية.
الضحايا وفق تقديرات متباينة بلغت المليون انسان، قضوا نحبهم بالأيادي الحديدية التي تشيّد وطناً من ظلمٍ وقهرٍ وعذاب.
نداء المالكي الحديدي، وصداه الحديدي في كُردستان ثبّط من عزيمة الاتحاد الاسلامي الكُردستاني، فاستغفر لكُفره وتاب عائداً الى الصف الوطني الحديدي.
السيدان الرئيسان جلال طالباني ومسعود بارزاني، لم يتوانا في شنّ حملة حديدية على هذه القوى التي يبدو انها فعلاً تشكل خطورة نوعية على السلطة القائمة في العراق.
إذن التدخل في شؤون العراق (كفر وخيانة).
إذا فضلنا التمتع بوضع العراق خارج الدائرة السياسية، وهو ليس بممتع، يبدو الكلام المضاد للتدخلات الخارجية نكتة مضحكة لا تفوقها نكت أخرى سوى أن قائلي هذه النكتة هم اصحاب السلطة في العراق الذين ادخلوا الغرباء (الخارجيين) الى العراق في حصان طروادة.
المعارضة العراقية اليوم اي الجبهة الجديدة، ادركت اللعبة ومكامن التفوق الذي يتمتع به الفريق الآخر متربعاً على عرش السلطة. لذلك فان قوى مختلفة اصبحت تتبع آثاراً قديمة لاقدام المعارضة العراقية القديمة، في رحلة البحث عن تهييج قوىً خارجية لــ (الاطاحات الأزلية) بالأنظمة التي يرفض الواحد منها الآخر، في جبهات تلعن الواحدة اختها، عسى بتقلبات جديدة الاطاحة بالعهد الجديد: قديمٌ مُتقمِص في آدائه وفي محتواه سياسة وأمناً وقوةً.
والمُقِضُ لمضجع السلطة المتحالفة في العراق أن مساند الجبهة الجديدة في العراق هي قوى اقليمية من الوزن الثقيل: السعودية، الامارات، مصر، تركيا، الأردن، سوريا.
إذن التدخل الخارجي في العراق قائمٌ على قدم وساق. ولكن ما تحلّه السلطة لنفسها تحرّمه على غيرها. لكن الخطورة هنا لا تنتهي بالدخول في ميثاق وطني مشترك، المستحيل حدوثه، وانما بوجود عدالة متينة يستوي فيها الأفراد والأحزاب والجبهات دون فوارق عنصرية كثيرة، هنّ أوتاد الحكم القائم في العراق حالياً.
فاليد الحديدية للسيد جواد المالكي صُقلت في ايران وسوريا وتحولت الى فولاذ بقوالب امريكية. والسلطة الكُردية الحديدية صقلتها قوى اقليمية: ايران، تركيا، سوريا ومن ثمّ قوى خارجية بزعامة امريكا. الأمر كذلك بالنسبة للبعث في ما مضى. فالبعث استقوى بالحديد على العراقيين، صَقلت فولاذه قوى خارجية لعقود طويلة.
لكن المعارضة العراقية الجديدة خرجت بنتيجة ذكية لأول مرّة منذ سقوط البعث، وهي قاتل خصمك بالسلاح الذي يستعمله. ولكن هذه النتيجة هي ثمار جهود مواظبة و كثيرة للمعارضة، بسواد سني عربي في عواصم عربية واقليمية ضد حكومة المالكي، اشرنا الى مضامينها قبل اشهر في مقالنا على الايلاف (الابعاد الاستراتيجية لاختطاف الدبلوماسيين الامريكيين في كُردستان).
ما يثبت في وضوح بائن، ما ينكره الجمع في نفاق كامن ان العراق كوطنْ مريضٌ حتى نخاع العظم، ليس يصلح للوحدة بين هذه الأصناف المتنافرة والمعادية. فليس لهذا الوطن استقامة على امرٍ باجماع داخلي بين مكوناته الا بتلقي الوصايا والأوامر من الخارج، القريب منه والبعيد.
ومما لا يمكن ثبوته وقيامته الاجماع في الدائرة الوطنية بمرتبة وطنية. والاجماع في هذه السبيل يستدعي تخلّي اي مكون من مكوناته عن وجوده وجوهره من اجل مكون آخر: السنة يريدون الادامة بمركزيتهم في السلطة، الشيعة لن يتخلوا عن هيمنتهم ذات الاكثرية في البلد، الكُرد لن يرضوا بالتنازل عن فيدراليتهم و زعامتهم على البلاد، التركمان يرفضون الفيدرالية الكُردية وضم كركوك الى اقليم كُردستان جنباً الى جنب مع شيعة آخرين واكثرية العرب السنة. الجميع يرفض الآخر بطريقة أو أخرى وليس يحسم الأمر سوى اليد الحديدية، والغلبة لمن يحصل على فولاذ أكثر من الخارج. هذا هو الوطن الذي يملك ليس صداماً واحداً بل الآلاف من الدكتاتوريين الذين لا يختلفون عن بعضهم إلّا بما يبدعونه من خراب ودمار. كنا وصفنا المعارضة العراقية بالاكثر دكتاتورية من صدام، في التسعينيات من القرن الماضي وطرحنا السؤال لما بعد سقوط نظام صدام: كم صداماً في العراق سيولدون إذا ولّى نظام البعث؟
في اجتماعات المعارضة العراقية في دمشق بداية التسعينيات كنت اسمع مراراً من مسئولين شيعة انهم ظلموا في العراق الحديث بيد السنة لمدة سبعة عقود.
وبما ان كاتب المقال كان فرداً من جهة عراقية معارضة سابقاً وتحديداً في سوريا، فقد لامسنا مبكراً صّدامية أفرادها ومن بينهم لاحقاً للأسف الشديد، السيد جواد المالكي، الذي كنا نتوقع منه الرحمة والسلام، وبناء عراق بعيداً من العنف (راجع إن شئت مقالنا: المعارضة العراقية اسوأ من نظام صدام، النهار اللبنانية، العدد 20487 الأربعاء 27 تشرين الأول، 1999).
ولكن العراق المنحني ظهره تحت وطأة التاريخ والمظالم والدماء، امسى ساحة خراب للأيادي الحديدية التي تعبث بكل مفردات الحياة. ولا يزيل الحديد الّا الحديد.
وبين طقطقة الحديد والصدى ظلمات وقهر وعذاب يجرّ أهوالها بحزن وحسرة الفقراء المساكين من العرب والكُرد والتركمان والمسيحيين و آخرين، في بلاد لن يبق فيها سوى الحديد والظلام.