قالت الشرطة العراقية quot;إن مسلحين قتلوا 27 حلاقاً في مدينة البصرة خلال يوم واحد quot;
الحلاق.. ذلك الإنسان الذي يأمن الجميع على رؤوسهم بين يديه، ولا يعصى له رئيس أو ملك أمراً.. ها أصبح مطارداً ولا يأمن على رأسه في العراق!. وخبر البصرة بالطبع أشد وحشة وأكثر فجيعة، لما يحمله الرقم من كارثة حدثت في يوم واحد، ورسالة غامضة لا تحمل سوى دلالة العودة الى عصور ما قبل الحلاقة، وهذه العصور لا تقف عند حضارة بلاد ما بين النهرين بل تعود الى العصور الحجرية قبل أكثر من ثلاثين ألف سنة حيث ظهرت في الرسوم الحجرية صوراً لأصداف المحار تستخدم كملاقط وموسى للحلاقة.فما الذي يريده الآن من يستهدف الحلاق غير العودة الى الكهف؟.. وهل يعقل؛ أن يجد الكهفيون من البصرة مكاناً لتطبيق تعاليمهم بعد أن تجاوزها أهل سومر قبل آلاف السنوات، وهم يبتكرون أدوات حلاقة من النحاس؟..أم هل يعقل أن يحدث مثل هذا في بغداد، بعد أن كان أول رجل يفتتح مدرسة لتعليم الحلاقة في الأندلس بغدادياً يتفنن في صناعات الأدوية والمستحضرات الطبية أيضاً؟..وكيف يحدث هذا في البصرة، وقديماً، ما إن يرد أسم البصرةِ حتى يتهادى إلى الأذهانِ مجد خزانة العرب، وعينهم على الدنيا.. فالبصرة العظمى، والبصرة الزاهرة، والفيحاء، وقبة العلم؛كلّها أسماء لهذه الحاضرة العامرة، فلا شيء ينفع ولا جدوى للعالم quot;بعد خراب البصرةquot;؛كلمات ذهبت مثلاً في الزوال، وإشارةً إلى جهة للمجد عرفها العالم باسم العراق قبل أن تبنى بغداد، وكانت تقاسمُ الكوفة مجد المدرستين وتفوقها حين تسميان بالبصرتين؟..
وليست جزافاً؛ الألقاب المُطلقة على البصرة، فهي نتاج أولى تفاعلات تلك المدينة مع واقع حضاري مرّ على زمانها منذ أزمنة بعيدة ولا زلنا نفتقد معايشته اليوم..فها خلف بن المثنى يذكر في أخباره عن سمو الاختلاف والتعايش البصري المذهل، حين يقول: شَهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة وهم : الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب النحو، وهو((سني))، -التصنيفات لإبن المثنى كما أوردها في النص- والحميري الشاعر، وهو((شيعي))، وصالح بن عبد القدوس، قيل عنه انه ((زنديق ثَنوي))، وسفيان بن مجاشع، وهو quot;خارجي صُفريquot;، وبشار بن برد، قيل عنه انه شعوبي ((خليع ماجن))، وحماد عجرد، قيل عنه انه ((زنديق شعوبي))، وابن رأس جالوت، وهو((يهودي))، وابن نظير المتكلم، وهو((نصراني))، وعمر ابن المؤيد، وهو ((مجوسي))، وابن سنان الحراني، وهو ((صابئي)).
رواية مفتوحة على أفق إنساني عظيم، والأجدر ان تترك هكذا دون أي تعليق.فقط فسحة من تأمّل بعد إعادة قراءة خبر المقدمة، للمقارنة بين واقع ما يجري في العراق الآن، وزمن من التعايش والتسامح قبل أكثر من 1200 سنة.. زمن يحتمل مثل هذه الاجتماعات اليومية بكلّ سهولة ويسر. وآخر حديث لا يحتمل مشهد دكان لحلاق يختلف معه ظلامي حدّ القتل مجادلاً في فتوى حلق اللحية.