نالت سنغافورا استقلالها عام 1965 م . كانت هذه الدولة عبارة عن دولة جزيرية مكونة من مدينة واحدة يقطنها مليونا نسمة. وكانت كل الاحتمالات عند الاستقلال، ولأسباب موضوعية وطبيعية أهمها زيادة عدد السكان مقارنة بالرقعة الجغرافية المحدودة التي يعيشون فيها، توحي بأن بقاء هذه الدولة قائمة، فضلاً عن ازدهارها، مطلب من الصعوبة بمكان تحقيقه. ورغم كل هذه التحديات ها هي سنغافورا، ونحن في بدايات القرن الواحد العشرين، واحدة من أنجح الدول تقدماً ومدنية وقوة اقتصادية عملاقة، رغم شح الموارد الطبيعية.
أهمية نجاح التجربة السنغافورية بالنسبة للعالم ككل، أنها تجربة مثالية في كيفية الاستفادة من (الازدحام) السكاني، وتحويله إلى عامل تقدم لا عامل تخلف، في عالم تقول كل مؤشراته أن التحدي العالمي القادم سيكون (الازدحام) السكاني. فهذه الدولة ndash; كما تقول الأرقام - أكثر الدول في العالم ازدحاماً بالسكان على الإطلاق (15000 نسمة لكل ميل مربع)، ومع ذلك فإن متوسط دخل الفرد فيها 30 ألف دولار سنوياً، و تحتل المرتبة التاسعة من حيث ارتفاع دخل مواطنيها والمقيمين فيها. كما أن لديها أكثر المؤسسات كفاءة في الموانئ والمطارات والخطوط الجوية في العالم. وتمتلك هذه الدولة الصغيرة ثالث أكبر قدرة لتكرير النفط في العالم؛ إضافة إلى أنها واحدة من أكبر المراكز المالية.
والسؤال : كيف وصلت سنغافورا إلى هذه النتائج المذهلة خلال مدة تقارب الأربعين سنة فقط، الأمر الذي جعلها - كما يقولون - (الدولة المعجزة)، التي لم تتغلب على ظروفها الصعبة فحسب، بل حوّلت هذه الظروف إلى عامل (ثراء) وقوة ومكانة وتحضّـر؟
السبب - بمنتهى البساطة - أنها انطلقت من الاقتصاد، واعتبرته (شرعية) بقائها. لم يبحث السنغافوريون عن (أيديولوجيا)، ولم يدخلوا في تكتلات سياسية أو قومية، بل اعتبروا أن (الاقتصاد الحر)، وآلية السوق، والارتقاء بقيم العمل، والترحيب بالاستثمار الأجنبي، هو الطريق إلى البقاء والتحضر؛ ولتصبح هذه الدولة الصغيرة في النتيجة محط أنظار العالم وإعجابه؛ بل وتجربة تطمح إلى أن تحتذيها كل دول العالم الثالث التي قتلتها التجارب الفاشلة، ولعبت فيها الأيديولوجيات. فشلت التجارب العروبوية، وعلى رأسها تجربة عبدالناصر، لأنها ببساطة همّشت الاقتصاد، وراحت تبحث عن الحلول في الأيديولوجيا العروبوية المفبركة، فانغمست في الفشل، وكبلَ الفساد المالي والإداري والسياسي قدرتها على النهوض، فأصبح وضعها يراوح بين (مكانك تحمد) تارة وبين (القهقرى) تارة أخرى. ثم رفع المتأدلجون المتأسلمون شعار (الإسلام هو الحل) بذرائعية لا تخفى على الحصيف. سقط (عبدالناصر) العروبويين وحل محله (سيد قطب) الصحويين، فتنافس هؤلاء وهؤلاء على من يكون (شهاب الدين)!
دبي هي أكثر الدول الناطقة بالعربية شبهاً بالتجربة السنغافورية. نجاح دبي تثبته الأرقام وليس الشعارات . لم تحفل دبي بالأيديولوجيات مثلما فعل الآخرون. رفعت شعار الأولوية للاقتصاد لا الأيديولوجيا، فانطلقت في آفاق التحضر تجربة فريدة في منطقة تتنازعها كل علل العالم وأمراضه الثقافية والاجتماعية. وكنت قبل فترة في نقاش مع واحد من كبار السياسيين الكويتيين، وكان صاحبي يتحدث عن تجربة (الكويت) الديمقراطية ويطرحها لتكون مثالاً يقتدى للدول العربية كما يقول. سألت صاحبي : الكويت بدأت فيها التجربة الديمقراطية منذ ما يقارب الأربعين سنة. دبي لم تعرف الديمقراطية في تاريخها، ولم تعرف الانتخابات ولا التجربة (البرلمانية)، وهي الآن (تخطت) وبمراحل الكويت بمقاييس التحضر و التنمية والنجاح الاقتصادي. فإذا كانت (دولة الانتاج) لا (دولة الريع) هي أول أهداف العمل التنموي، فلا بد من الاعتراف أن الكويت بعد أربعة عقود من (الديمقراطية) مازالت (دولة ريعية)، فلماذا لم تأخذ الديمقراطية الكويت إلى تحقيق أهداف التنمية رغم أنها بدأتها قبل دبي بما يقارب العقدين من الزمن؟
تجربتا سنغافورا ودبي يجب أن تدرس لكل الناطقين بالعربية في رأيي لتخليصهم من أوحال الإيديولوجيات.