الانسانيّة صفة مكتسبة. بفعل كمّ المعلومات المتعاقبة عبر تاريخ البشر، مضافاً اليها ما أمر به الله عن طريق الاديان السماويّة، بتفعيل الجانب الانساني. ولأنّ العقل ملكيّة عامّة عند بني الانسان، جاء دور الفلاسفة لاثبات إرادته وحريّته وحقوقه.
فلغة الدين ولغة الفلسفة في تركيزهما على الحريّة والانسانيّة، يشترطان الشخصيّة - القدوة التي تتجسّد فيها الاخلاق المثاليّة في كلّ زمانٍ ومكان. اي حتّى قبل معرفة الرموز الدينيّة، ولذا كان الناس قديماً يتخلّقون باخلاق حكماء اليونان ورجال البوذيّة وسواهم.
والتساؤل قبل الاقتداء، هو ذلك البحث الانساني الذاتي في النواقص، والتي نجدها عند الآخر، الذي نحسبه مكتملاً فكريّاً واخلاقيّاً. وربّما تكون شخصيّة القدوة هي ما نتوهّم اكتمالها في دواخلنا، أو هي كامنة في الغيب أو الخيال، ونشعر معها بأمانٍ ورضىً وارتباط، يتيح لها الاستيلاء التام على ذواتنا، وتصبح كأنّها الحقيقة الوحيدة المطلقة في الحياة، علماً انها لاتعدو كونها رغبة في المماثلة أو التطابق، لا أكثر ولا أقل.
هذا ايجاز لما استنتجه ( برجسون ) في كتابه الهام ( الاخلاق والدين )، ويصلح مفتتحاً للقول بأنّ نظام التصوّف عند العرب، موغل في القدم تحت نفس التسمية، وقبل ظهور الاسلام بكثير، وكان له الدور الفاعل في كيان المجتمع العربي في قريش واليمن وسواها، وبذات الاساليب من الزهد والتنسّك في البحث عن المخفي والكامن، والحق والباطل وسواها. لكنّ الاسلام الذي أطلق صفة - الجاهلية - على كل المرحلة السابقة له، ألغى ضمن ما أ لغاه حركة التصوّف من نشاطات المجتمع الفكريّة المختلفة.
عُرف عن الصوفيّ منذئذٍ، بانه الشخص الذي لا يملك شيئاً، ولا يملكه شئ. وهو المشغول في الكشف عن الحقائق وعوالم الغيب. والذي يرى الله في كلّ شئٍ من حوله. وغيرها من التعاريف التي بدأت تتضح وتتطوّر كمنهج ونظرية منذ منتصف القرن الثاني للهجرة، وقد طوّر شيوخه العمل المنهجي لمسارهم الفكري من صلب النصوص الدينيّة، التي عمل عليها المعتزلة من قبلهم، وبذات الادوات الإيمانيّة، ولكن في مساحات الكشف، التي لا حدود لها. وبتجاوز مداليل الإشارات التي توقّف عندها الانبياء والرسل والفلاسفة والمتكلمون، في شؤون العقائد التوحيديّة، وفي معنى الحقيقة.
فاستوقفتهم مثلاً ظاهرة تمجيد العقل في القرآن الكريم، وفي الاحاديث النبويّة، كما فعل المعتزلة في اتجاه تجريبي مختلف، فقال المتصوّفة انّ قلب الانسان هو عقله، وهو مركز الكون والحقائق الحسيّة والغيبيّة، مستندين الى اشارات الآيات القرآنية في ذلك، كما ورد في سورة الاعراف - الآية 179 ( لهم قلوب لا يفقهون بها ). والفقه في القلب، يعني العقل والروح والنفس - كما يقول المتصوّفة -. والذين لا يفقهون، هم كالانعام، لا، بل اضلّ من تلك الماشية، كما ورد في سورة الانفال - الآية 22 ( انّ شرّ الدواب عند الله الصمُ البكمُ الذين لا يعقلون ). وقال عنهم في سورة الفرقان ( بل هم أضلّ سبيلا )، وفي الآية 21 من سورة الحشر ( وتلك الامثال نضربها للناس لعلّهم يتفكّرون ).
عمل المتصوّفة على ربط المعرفة في الاسلام بالنظر العقلي، وبالتفكير والتأمّل، وكان ينصّ نشاطهم الفكري والسلوكي، على المحاكمات الداخليّة، لتمييز معاني النصّ الديني. وربطوا بين ماهيّة الاشياء في منظومةٍ واحدةٍ متكاملة، تفصح عن علاقة الجزئي بالكلّي، ضمن رؤيتهم لوحدة الوجود. لكنّ منطق التأثيم طالهم، كما طال المعتزلة، وكل المشتغلين في حقول المعرفة، واضطهدهم فكريّاً وجسديّاً، واتهمهم بالبدعة والزندقة والإلحاد. وطغت موجة العداء السلفيّة لتشمل كبار العلماء والفلاسفة والمتصوّفة، حتّى جاء زمن ابن تيمية الذي أفتى بإلحاد ابن سينا، وحرّم كتب الصوفيين وسواهم.

بين المتصوّفة والمعتزلة

ما امتاز به المتصوّفة عن المعتزلة - ان أمكن اجراء المقارنة - هو انّهم سعوا الى إدراك الحقائق بالرؤية المعرفيّة الحسيّة، وليس بالبراهين الماديّة التجريبيّة العقلية ( كما فعل المعتزلة ). واعتبروا القلب البشري مرآة تلك الرؤى، ومركز انبعاث الصور الايحائية للكون على ذهن الانسان، وهو في حالةٍ وجدانيّة خاصّة من التوهّج وتدفق المشاعر.
كان لتجربة الحلاّج في القرن الثالث للهجرة، الدور الريادي في الافصاح عن نظريّة التصوّف، وعن مقولاتهم في العدالة والحق والحريّة، رغم شراسة التصفيات التي أصابت المعتزلة من قبلهم. فاصبحت مقولات الحلاّج عن الله والحقيقة والحريّة والكشف، ملاذاً روحيّاً عند عامّة الناس، وبديلاً فكريّاً لنمط من انماط الرفض الشعبي للخلافة العبّاسية وقتئذٍ. وقد شغل موقع القدوة الروحيّة والسياسيّة والاجتماعيّة البديلة في المجتمع. وكانت تتجمهر حوله العامّة في جوامع بغداد، حيث كان يلقي خطبه ومقولاته، خصوصاً في فترة انتشار الاضطرابات السياسية والاجتماعيّة. وكان لالتفاف الناس هذا من حوله، سبباً في ازدياد نقمة السلطة عليه، ورأت في ذلك، وفي طروحاته الصوفيّة، تهديداً مباشراً لعرشها وكيانها.
أكتشف الحلاّج المصطلحات الصوفيّة، وهو علم متخصّص بذاته، وكذلك علم الحروف، ووضع على بساط البحث المعرفي كلّ ما هو في قمّة الحدس والانفعال والخيال، ودعا عبر هذه الادوات سبل الكشف الانساني الذاتي، لتجاوز الواقع وحدود النص، الى ما بعد الرؤيا والخيال، والى ما بعد العلم والعبادة. وبحث في صلب النصوص الدينيّة، عن عمق التقارب والتباين اللفظي، والمعنوي، بين مفردات المقدّس والمدنّس، بين الكفر والإلحاد، بين النعمة والبلوى. وشكّل منها صياغاتٍ مبتكرة، ونصوص نثريّة وشعريّة، أصبحت فيما بعد، مفاتيح الفكر الصوفي العربي في الاسلام، وسار على منوالها كلّ من جاء من بعده.
المتصوفة، أسّسوا لأبناء اللغة العربية، وأحفاد الضاد، قراءةً جماليّة خاصّة بهم - رغم غزارة هذه اللغة، من الناحية البلاغيّة واللفظيّة، فتمكّنوا من تفكيك بنائها اللغوي، الى مساراتٍ ورموز واشارات، منحت على سبيل المثال الحرف العربيّ، والنقطة، والخط، أبعاداً فلسفيّة وجمالية وروحيّة جديدة، ما زال تأثيرها فاعلاً حتى اليوم.
وكان لاعلان الحلاّج معرفته العميقة بالله، أكبر الأثر في انتقال الحياة الفكريّة في المجتمع العربي الاسلامي، نقلة ً نوعيّة، غيّرت من مستوى الاداء الابداعي والفلسفي عموماً. فقد تحدّث باسلوب منهجي - جدلي متماسك، عن علاقة ذات الانسان بذات الله، وعلاقتها بالكون، وحدّد لكلّ اسمٍ وصفةٍ وحرفٍ، درجة من التأثير والتأثر، تتجلى مقاديرها النسبيّة، في مستويات تفاعل نشاط الكون المحيط، مع وفي النشاط الوجداني الذاتي للإنسان.
وفي مقولته - اي الحلاّج - عن تكامل الفكرة والمعنى، أو تماثل الذات والوجود، أعطى مفهوم التوحيد بعداً سلوكيّاً جديداً، ينطوي ضمناً على إلغاء مفهوم التضاد، وإلغاء شرطيّ الزمان والمكان، واعتبرهما حواجز ماديّة، تعيق مسعى الذات الى التحرّر، والعوم في عوالم المطلق.
في هذه الوحدة الرؤيويّة للوجود، يتأكد حضور ذات الله في كلّ شئ، باعتباره مقدمة لشئٍ آخر.. وهكذا. وفي هذا التفسير الصوفي، ترتبط قدسيّة النص الديني، في قدرته وفي طاقته الداخليّة، على استنهاض طاقة الذات الانسانيّة، على التحرر والجدد والاستكشاف. والحلاّج بذلك، وضع يده على كلّ ما من شأنه رفع منزلة الانسان، واعتبار إرادته المقام الاوّل.
هذا العمل المبكّر ( منتصف القرن الثالث للهجرة ) على ثلاثيّة الانسان - النص - الواقع، وبذلك التكامل الفكري والرؤيوي، قدّم الحسين بن منصور الحلاّج حياته ثمناً للإفصاح عنه، في الوقت الذي كان المفكرون فيه يحجبون أفكارهم، تحسّباً من إرهاب السلطة العباسية. لكن أفكاره ومقولاته تلك، شكّلت حافزاً روحيّاً وفكريّاً وجماهيريّاً جديداً، لمعنى المقاومة والتغيير، مازالت سارية، ونفتقدها، حتى يوم الناس هذا.
ما قدّمه المتصوّفة من مفاهيم مستحدثة، في مجالات علم الكلام وعلم النفس وعلم الجمال وعلم اللغة والعلوم والقيم الاخلاقيّة والانسانيّة المختلفة، جعلت الفوارق بين الامم والشعوب والحضارات، شبه معدومة، مهما تباعدت أوطانها وأزمانها وأديانها، وصهرت الجميع في مقولاتٍ انسانيّةٍ شاملة، فيها كلّ موجبات تواصلها الثقافي والحضاري والانساني.
لهم دور الريادة ايضاً، في تحديث طبيعة العلاقة بين الدين والدولة، وبين السلطة والمجتمع، وفي اعتبار المعرفة سبيلاً للإصلاح عموماً، ودعوا الى ثورةٍ فكريّةٍ - روحيّةٍ - سلوكيّةٍ شاملة، بدءاً من التمرّد على الذات، ورغباتها ونوازعها، الى تجاوز حدود الممنوع والمسموح، وتجاوزالمفهوم المتداول للمقدّس والمدنّس وغيرها، حتّى تفاصيل اللغة العربيّة، التي أصبحت ضمن طروحاتهم، من مكوّنات النفس البشريّة، ومماثلة في سلوكها للسلوك الانساني. فقد شحنوها بكلّ اسئلة الذات، عن معنى الحريّة والحق والعدل والوجود، وجعلوا من فصاحتها مختبراً، لعلوم الكيمياء والسيمياء والفلك وغيرها، ليقدّموا رؤية عربيّة اسلامية خاصّة، في مفهوم علم الجمال، كان من المفترض تبنّيها في مناهجنا الدراسيّة والاكاديميّة.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية