تراثنا واحد لا يتغيّر، المتغيّر قرآءاته وحسب. ومن مجمل تلك النتاجات تتشكّل المعرفة به. واختلاف هذه القراءات ndash; المعارف، حسب مناهج منتجيها، تمنحنا كافراد غنىً في مستويات الطرح الفكري والسياسي والاجتماعي، مهما تناقضت تلك الرؤى. بمعنى ان كل استنتجناه من معارف نابع في الحقيقة من مكمن طبقي اجتماعي سياسي انتجه الافراد، وهو ممثل لطموح فئة او طبقة او جماعة. وينعكس تأثيره بشكل او بآخر على المتلقي، الذي هو بالمحصلة واقع ضمن ذلك التقسيم الاجتماعي وضمن دائرة الاستهلاك والانتاج لهذه الافكار والقراءات المتباينة.

فمنطلقات الذين رفضوا قراءات المعتزلة والمتصوفة ودعاة تحرر التراث، لاتختلف عن منطلقات الذين رفضوا منهج التطور العلمي في اوروبا اول الامر، اي قبل عهد الثورة الصناعية، وعن الذين رفضوا ايضا منهج النشأة الاولى للفلسفة في الاسلام. وباسم التقديس والتأثيم تمّ اقصاء العديد من القراءات الرائدة للتراث. لان هذه القوى لم تضع في حساباتها اصلا امكانية فكرة تقبّل التنوع او التغيير، فكيف بالاصلاح ؟ وكانت على الدوام ولاسباب سياسية، تجد تبريراتها التجريدية، مهما بدت متنافية مع منطق العلم وحركية التاريخ.

الاسلام حارب ndash; بالتي هي احسن ndash; اول الامر، كل اشكال الوعي التي كانت سائدة في المجتمع، وطرح مفاهيم جديدة لمعنى الاله والعدل والقانون والخير والشر... الخ، وحارب مكدّسي الاموال والمرابين والمحتكرين لحقوق المستضعفين في الارض. لكن الذين لم تلائمهم هذه القراءة من زعامات قريش، قاوموها بكل امكاناتهم الفكرية والمالية والسياسية. لانهم ببساطة وجدوا الخطر الذي يهددهم كامن في الرسالة الاسلامية، وفي توجهها الاخلاقي الذي يدعو الى مساواتهم بسواد الناس امام اله واحد!
لكن هجرة الرسول قد حسمت اشكالية الصراع لصالح الدعوة الجديدة. وبعد اعوامٍ قليلةٍ سرعان ما ادركت زعامات قريش ان مصالحها التجارية وكذلك السياسية ربما ستزدهر امميا اوعالميا في حال دخولها الاسلام، بدلاً من ان تظل آلهتها وتجارتها محصورةً بالقبائل العربية فقط.

الاسلام اشترط بعد مراحله الاولى حصر المعرفة بالقرآن والحديث لاسبابٍ سياسية. وبذا تمكّنت السلطة من ان تصبح حارساً غير اميناً لتصيّد واقصاء كل القراءات المغايرة لمذهب الخلافة او الدولة الناشئة. فاعتبروا التامّل والنظر العقلي- الفلسفي في النصوص الاسلامية صورة للبواطن الشيطانية ودعوة للخروج عن الاسلام. فسمّاهم الغزالي ب [ المبتدعة ]، وتوارث فقهاء الفكر الرسمي هذه التسمية، وتوارث القائمون عليهم السلطة واموال المسلمين وقرارات التقديس والتدنيس والحق والباطل والخير والشر.......الخ.

ثمة عملية ربطٍ قسري لمفهوم التوحيد في الاسلام بمفهوم الصياغة الاولى لمذهب الدولة، وربط ذلك بالمصدر الالهي. وهو ماقاد باعتقاد الكثيرين الى حملات ابادة فكرية وجسدية مهولة، حرَمت وحرمت العرب ndash; المسلمين من الخوض في قضايا الجدل الفكري ndash; الفلسفي في الاسلام، لا بل اٌحيلت كل خروقات السلطة في هذا الشأن الى مقولة تبريرة اخرى مفادها انه قضاء الله في عباده.

لم يتوقف الكفاح المعرفي بين الناس عند هذه الحدود الرسمية الضيقة، بل تمكّن علماء الفلسفة والكلام من تاكيد مكانة العقل في التراث، وخصوصا في القرآن والاحاديث النبوية، وتمكنوا رغم كل سبل التنكيل والتشكيك من صياغة المحاور الاساسية لهوية الفلسفة العربية في الاسلام.

القراءة التي ندّعيها، تستحضر المواجهة بين احداث التاريخ ومنتجاته الفكرية والسياسية والاجتماعية، بما فيها من افراد مؤثرين سلباً او ايجاباَ في سياق حركة التاريخ. منحازين الى الرؤى الاصلاحية والعقلية مهما آثرنا الحياد. ومن غير الطبيعي حقا ان تكون هنالك قراءة وما اكثرها بيننا اليوم، تتبنى الاصلاح والتنوير باضائتها الراهن العربي الاسلامي، لكنها تعتمد على استنتاجات مجزوءةٍ من نصوص الماضي بذريعة انه المؤسس لرؤية المستقبل. وفي هذه الحالة ايضا ستكون تلك الرؤية اطلاقية شمولية باستنادها الى مساحاتٍ محدودة وضيقة من التراث. وهو مايتناقض والاصلاح كموقف فكري ndash; انساني شمولي من الخطأ تجزئته، لانه يبدأ من ومع النص، ثم محاولة منحه المصداقية بالاجتهاد والسعي والسلوك، حتى تحريره على ارض الواقع كحقيقة ايمانية ممكنة او محتملة، تمهّد للشروع بمسقبل مغاير يعكس استقلالية اشكال الوعي الفكري والاجتماعي في زمنٍ ومكانٍ محددين، ذلك لان الحقيقة ذاتها تحمل مكوناتها النسبية وملامحها من نسبية وجودها اصلاً، لا من اضفاء صفة الاطلاق والشمولية عليها.

ان اي دراسة مجزوءة لواقع ما، ستساهم في تشويش الرؤية الاصلاحية المرتجاة . الرؤية المعرفية التي تستدعي القراءة الموازية لنصوص التراث، وقواه التاريخية المنتجة له، واشكال الوعي السائدة حينئذٍ.

سمير السعيدي
شاعر وباحث عراقي