كلنا نحب أن نرى الجانب المضيء من تاريخنا ولو كان ذلك على حساب الحقيقة!

علل التأريخ :
يعترف المؤرخون قبل غيرهم أن كتب التاريخ ـ على اختلاف مواضيعها وتَنَوُّع مناهجها ومدارسها ومشاربها ـ لا يكاد يخلو واحد منها من بعض الروايات الضعيفة، أو الأخبار الملفقة التي لا أساس لها من الصحة، أو الأساطير والحكايات والروايات الغريبة التي تناقلتها الأمم جيلاً بعد جيل دون تمحيص حتى أمست جزءاً لا يتجزأ من تراث التاريخ البشري.
ولعل هذه العلل وأمثالها مما يعتري عملية التأريخ هي التي دفعت واحداً من أبرز الفلاسفة المسلمين المهتمين بالتاريخ وهو ( ابن خلدون )(1) لإفراد فصل كامل في كتابه الأشهر ( المقدمة ) للحديث ( عما يعرض للمؤرخين من المغالط )، ومما كتبه حول هذه الإشكالية : (.. لأن الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرَّد النقل، ولم تُحَكِّم أصولَ العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يُؤْمَن فيها من العثور ومََزلَّة القدم، والحَيْد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل، غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فَضَلُّوا عن الحقِّ وتاهوا في بيداء الوَهْم والغَلَط.. )(2) .
أضف إلى هذا أن صور ( الوقائع ) التي نجدها مدونة في كتب التاريخ هي في الأعمِّ الأغلب غير الوقائع التي وقعت فعلاً عبر التاريخ، ولاسيما منها ما يتعلق بالتاريخ البشري، وذلك لأن عملية التأريخ تنفذ في العادة من خلال الوثائق والأخبار والروايات والشواهد التي تصل إلى المؤرخ، وتبدأ إشكالية التأريخ في اللحظة التي يصطحب فيها المؤرخ هذه المعطيات إلى منزله حيث ( يطبخها ) بالطريقة التي تروق له، ويرشّ عليها ما يحلو له من بهارات فكره ومعتقداته وميوله ونزعاته الشخصية وربما شطحات خياله أيضاً ليقدِّمها لنا آخر المطاف في حُلَّة جديدة لا يكاد يجمع بينها وبين الأصل في معظم الحالات إلا العناوين، وهذا ما دفع واحداً من أشهر الصحافيين المعاصرين المهتمين بالتاريخ وهو : س.ب.سكوت ( C.B.Scott ) إلى القول : ( إن الحقائق تتكلم فقط عندما يطلب المؤرخ منها ذلك، فهو الذي يقرر نوع الحقائق التي ستعطى حقَّ الكلام، وسياق هذا الكلام ) (3) .
وأكاد أزعم عن معرفة لصيقة أن كتب التاريخ ليست أكثر من صورة للأمزجة البشرية المتقلبة، والمؤرخ عندما ينوي الكتابة لا يدخر وسعاً في أن يخفي صوت مزاجه لكي يظهر لقرائه في ثوب الموضوعية والتجرد والحياد، وهو يحاول جاهداً أن ينظم آراءه في إطار متماسك من المقدمات والنتائج، لكي يخفي نوازعه الشخصية التي يخشى أن تفضح نواياه !
وبتعبير آخر.. فإن المؤرخ يظل ابن مزاجه، وعن هذا المزاج تصدر مختلف آرائه وأحكامه، وهو في الأعم الأغلب يرنو إلى تقديم صورة للتاريخ ترتاح لها نفسه، ويسكن فؤاده !
وتؤكد الدراسات التاريخية المقارنة ( Comparative Historical Studies ) أن هذه العلة مستحكمة في معظم المؤرخين، ونادراً جداً ما ينجو منها واحد منهم، لأن المؤرخ غالباً ما ينطلق في تدوينه للتاريخ من موقف فكريٍّ أو إيديولوجي ( Ideologic ) مسبق، فنراه يتخير من وقائع التاريخ ما يؤيد موقفه الشخصي أو يبرِّره، وبهذا يتحوَّل ( التاريخ ) بين يدي المؤرخ إلى أبجدية مفتوحة تتيح له أن يصوغ منها ( الحكاية ) التي يريد، وبهذا تغيم الرؤية، وتضيع الحقيقة، ويتعذَّر علينا فهم مسيرة التاريخ فهماً صحيحاً.
وقد سبق للمؤرخ البريطاني ( مارتن برنال ) أن وقف على أكبر وأضخم عملية اختلاق في التاريخ الحديث، في كتابه ( أثينا السوداء ) الذي عرَّى فيه عملية اختلاق وفبركة الثقافة الغربية الحديثة لتاريخها الممتد من اليونان القديمة، ذلك التاريخ الملفَّق الذي لم يتأتَّ للغرب إلا بإقصاء الجذور الأفروآسيوية للحضارة الإغريقية القديمة لتكون اليونان أوروبية النشأة والثقافة والحضارة، ولتكون أوروبا ـ موطن الجنس الأبيض ـ هي الأحق بالسيادة والتفوق منذ القديم.. وفي عام 1983 ظهر كتاب للمؤرخين البريطانيين ( أريك هوبزباوم ) و ( تيرينس رينغر ) ضم مقالات متعددة تحت عنوان ( اختراع التراث ) تناولا فيها الطريقة التي سلكتها السلطات السياسية البريطانية منذ عام 1850 لاختراع واختلاق شعائر وأشياء وهويات زعمت أنها قديمة قدم الدهر، وذلك من أجل تسويغ كل تراث الاستعمار، الذي جرى تبريره عبر سَرْديَّة تُقرِّر أن الاستعمار لم يكن إلا أداة للتغيير والتحديث (4) .
ولا عجب.. فإن سجلات التاريخ حافلة بمثل هذه العمليات الملفقة التي تختلق وقائع لم تقع إلا في خيال المؤرخين الكَذَبة.. ولهذا يرى المؤرخ اليهودي الأمريكي ( كيث وايتلام ) رئيس قسم الدراسات الدينية في جامعة استيرلنج في كتابه ( اختلاق إسرائيل القديمة )(5) أن عملية التأريخ عملية في غاية الصعوبة، لا لقلة الوثائق، بل لأن عملية التأريخ عملية سياسية بالدرجة الأولى.
ويرى المؤرخ الفيلسوف البلغاري ( تزفيتان تودوروف ) في كتابه ( فتح أمريكا ) أن مأساة التاريخ لا تكمن فقط في شطب صفحات منه، بل أيضاً بالتلاعب به، وإعادة صياغته وتأويله أو إساءة تأويله عن قصد، ونقطة الانطلاق لكل تاريخ ـ بحسب تودوروف وهايدن من قبله ـ هي أشكال الحذف والإزاحة والإسقاط والتحوير لكومة الأحداث والمواقف التي تكوِّن ما يسمى بالتاريخ(6) .
علل التأريخ إذاً كثيرة باعتراف أساتذة التاريخ أنفسهم، ولعل من علله أيضاً إصرار المؤرخ على قراءة التاريخ في ضوء مصباحه الخاص، والمؤرخ إذ يفعل هذا فإنه لا يجد حرجاً باستغلال مواهبه الفنية بالتصوير، فنراه يسلط الضوء على بعض المناطق المظلمة محوِّلاً إياها إلى بقع مضيئة زاهية الألوان، بينما يحجب الضوء عن مناطق أخرى تاركاً إياها غارقة بالعتمة، وبهذا يجبرنا المؤرخ على أن نرى من الصورة ما يريد هو أن نراه، وهذا السلوك من المؤرخ يشبه عمل البستاني الذي لا يفتأ يشذِّب الأشجار بمنشاره الحاد لكي تبدو حديقته أكثر نضارةً وبهاء، فكذلك المؤرخ المنحاز لا يفتأ يستخدم منشاره القاطع فيحذف من هنا ويضيف من هناك، ليقدم لنا في النهاية قطعة تاريخية قد تكون في غاية الجمال والبهاء، ولكنها للأسف الشديد قطعة مزيفة، تخون الحقيقة، وتفتقر إلى الصدق والأمانة !
وقد يخيل إلينا اليوم أن التقدم العلمي الهائل الذي وفَّر لنا في العصر الحالي وسائل التوثيق الحديثة، من مسجلات الصوت، وكاميرات التصوير، والكومبيوتر، والتلفزة الفضائية المباشرة، ووسائل الاتصال الفورية من هواتف جوالة وشبكة معلومات عالمية ( إنترنت ) وغيرها، قد جعل عملية التأريخ أقرب إلى الموضوعية وأبعد عن الذاتية التي ظلت لعصور طويلة تنأى بالمؤرخين عن تسجيل الوقائع تسجيلاً أميناً، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فإن الكلمة الأولى والأخيرة تبقى للعامل البشري، أي للمؤرخ، الذي يمكن أن يُسَخِّر هذه الوسائل العلمية القيِّمة بقدر كبير من الحياد، كما يمكنه بالمقابل أن يحرِّفها أو يعدِّلها لتظهر على النحو الذي يريد، ولسنا مبالغين إن قلنا إن الوسائل الحديثة قد أتاحت للمؤرخ غير النزيه فرصة أكبر للتزوير بما وفرته من إمكانيات هائلة للتلاعب بالصوت والصورة على نحو يمكِّنه من قلب الحقائق رأساً على عقب !
وثمة علة أخرى من علل التأريخ، لا يكاد يتفطن لها كثير من الدارسين والمؤرخين، وهي أن المؤرخ يبقى ابن عصره وبيئته، وتظل القضايا التي تشغل بال عصره هي شغله الشاغل، وهذا ما يُفقد أغلب كتب التاريخ قيمتها بعد فترة من الزمن، عندما يتغير العصر وتتبدل الأحوال وتمسي روايات التاريخ مجرد حكايات مسلية لا علاقة لها البتة بقضايا الواقع الجديد.
ولا تنتهي علل التأريخ عند هذا الحد، بل هناك علل أخرى لا تقل خطراً عما سبق، منها اهتمام المؤرخين إجمالاً بالتأريخ لحياة الملوك والزعماء والشخصيات الدينية والأبطال القوميين، وإهمالهم تأريخ الشعوب والأمم وما كابدته من مشكلات ومآس ونكبات، وترجع هذه النزعة غالباً إلى رغبة الملوك والزعماء بتخليد ذكراهم وإنجازاتهم التي كثيراً ما يبالغ المؤرخون المقربون من أولئك الملوك والزعماء بتضخيمها طمعاً بالحصول على المزيد من العطايا والهِبات، وقد ترجع هذه النزعة عند مؤرخين آخرين إلى إعجاب المؤرخ نفسه ببعض الزعماء أو الشخصيات الدينية أو الأبطال القوميين، فيعمد إلى تلميع الصورة، وتضخيم الإنجازات، وغض النظر عن النقائص والأخطاء والشرور، وإضفاء كافة السجايا الحسنة على من يحب !
ومادامت عملية التأريخ تنفذ في الغالب على هذه الصورة من الإغراء حيناً، والطمع حيناً آخر، والإعجاب الشديد أحياناً أخرى، فلا عجب أن تفتقر معظم كتب التاريخ إلى الموضوعية، ولا غرابة أيضاً في أن يخالطها الكثير من المبالغات والافتراءات والمزاعم والمواقف التي لا تمتُّ إلى الحقيقة إلا بخيوط أوهى من بيت العنكبوت.
ويكفي للدلالة على هذه العلة أن تقرأ مثلاً ما كتبه أحد المؤرخين عن البطل الذي يحب لترى كيف أضفى عليه كل الخصال الحميدة، وجعله قادراً على فعل المعجزات، ورفعه إلى مرتبة دونها مرتبة الملائكة والأنبياء، فإذا انتقلت بعد ذلك لقراءة ما كتبه مؤرخ آخر مناوئ لذلك البطل فإنك سوف ترى صورة البطل نفسه وقد انقلبت رأساً على عقب، من جراء ما خلع عليه المؤرخ المناوئ من نقائص نزلت به إلى أسفل سافلين، حتى بدا وكأنه شيطان رجيم.. وهذه مفارقة عجيبة يعرفها كل من كانت له صلة حميمة بكتب التاريخ !
واضح إذاً أن علل التأريخ كثيرة يتعذر حصرها في هذا البحث الموجز، ولكن ثمة علة أخرى ـ وليست أخيرة ـ لابد من الإشارة إليها هنا لما لها من أهمية كبيرة في موضوعنا، ولأنها قلما يتوقف عندها نقاد التاريخ، وهي علة لا تتعلق بالتاريخ نفسه، ولا بالمؤرخين، ولا بعملية التأريخ، بل تتعلق بنا نحن ( قراء التاريخ )، فربما كان تجنينا على التاريخ أكبر من تجني المؤرخين أنفسهم، فقد يقلب أحدنا حقائق التاريخ رأساً على عقب دون أن يشعر، وذلك لأننا حين نقرأ التاريخ فإن كلاً منا يقرؤه على ضوء معتقداته الخاصة والمسلمات التي يؤمن بها، ولهذا ترانا عندما نقرأ التاريخ فإننا نعيد إنتاجه بصورة جديدة لا دخل للأحداث ولا للمؤرخ فيها، وعندئذ تأخذ الوقائع التاريخية مسارها الخاص في أذهاننا، وتتطور إلى حقائق أو أوهام أو مغالطات، وهذا ما يستدعي وقوفنا طويلاً أمام العلاقة الجدلية ما بين ( كتابة التاريخ ) و ( قراءة التاريخ )، وهي علاقة يعتريها الكثير من الإشكاليات، ولا مخرج منها في رأينا إلا بأن ننتقل في عملية التأريخ من تفاصيل الوقائع إلى القوانين أو السنن التي تتحكم بتلك الوقائع، وهذا هو مدار حديثنا التالي حول طريقة القرآن الكريم الفريدة في التأريخ.

--------------------------------------------------------------------

- أبو زيد، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ( 1332 ـ 1406م ) مؤرخ فقيه، وفيلسوف اجتماعي، ولد في تونس، وتنقل في بلاد المغرب والأندلس، ثم ارتحل إلى مصر حيث تولى القضاء في عهد السلطان برقوق، من مصنفاته ( العبر وديوان المبتدأ والخبر ) الذي كان لمقدمته أثر كبير في نقد وفلسفة التاريخ والعمران، وقد اشتهرت المقدمة أكثر من الكتاب نفسه، واعتبرت أول عمل علمي دقيق لتمحيص الأحداث التاريخية، ومازالت إلى اليوم مرجعاً مهماً في هذا الباب، وبها يعد ابن خلدون مؤسساً لفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
- ابن خلدون : المقدمة، ص 16، تحقيق د.درويش جويدي، المكتبة العصرية، صيدا / بيروت 2002.
- إدوارد كار : ما هو التاريخ ؟ ص 10، ترجمة ماهر الكيالي وبيار عقل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1986.
- مرايا : إعادة كتابة التاريخ، ص 20 ـ 22، مؤسسة الأيام للنشر، مملكة البحرين، 2003.
- أثار الكتاب جدلاً كبيراً في الأوساط الإعلامية والأكاديمية منذ صدور نسخته الإنجليزية عام 1996، وتراوحت الردود على الكتاب ما بين التأييد والنقد المنهجي إلى التهجم على المؤلِّف والتشكيك بأهليته ودوافعه كما ذكر وايتلام نفسه في المقدمة التي كتبها للطبعة العربية التي ترجمها ممدوح عدوان وأصدرتها دار قَدْمُس في دمشق بعنوان ( تلفيق إسرائيل التوراتية، طمس التاريخ الفلسطيني )، وقد نشرت ترجمة أخرى بالعربية بعنوان ( اختلاق إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني ) ضمن سلسلة عالم المعرفة، العدد 249، ترجمة د.سحر الهنيدي، الكويت 1999.
- المصدر السابق، ص 26.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه