quot;سينصفني التاريخ لأنني أنوي كتابته بنفسيquot; (ونستون تشيرتشل)

في عراق اليوم جدل ومزاد، لا من أجل إعمار البنية التحتية ولا إعادة الطاقة الكهربائية ولا لتوفير مياه الشرب الآمنة التي بح صوت الصليب الأحمر الدولي صراخا من أجلها قبل أن يسبق السيف العذل، ولا من أجل تحسين ظروف التعليم لملايين الأطفال اللذين يذهب الكثيرون منهم إلى مدارس بلا سقوف أو مقاعد، وإنما بخصوص معاهدة مؤقتة غير ملزمة للولايات المتحدة الأميركية أمدها ثلاث سنوات يراها البعض ضرورة ويراها آخرون تكريسا للاحتلال، ويراها طرف ثالث كفرا بواحا لأنها تهدد السيطرة الإيرانية الصريحة على العراق بعد أن أعلنت الجارة المشاغبة صراحة استعدادها quot;لملء الفراغquot;، ويراها بعض آخر ضمانا للحماية والأمن، ويقرأها طرف بوابة أمل للخروج من مأزقي الاحتلالين الإيراني والأمريكي، بينها يراها آخر مأزقا في حد ذاته.
أما المزاد فهو ذلك المعتاد في أوطاننا، حيث يمتلك الكل الحقيقة المطلقة، ويمتلك الكل حق تخوين الآخرين ويستغل مثل هذه المناسبات لتوزيع صكوك الوطنية أو سحبها، وتقليد أوسمة البطولة أو خلعها، كما فعلوا مع المالكي وصدام وعبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم والملوك من قبلهم.

وأكاد أرى بعضا يجلس على كراسي الحكم في العراق اليوم وهو يحلم بتسوية إيرانية أميركية قد تنهي quot;الكابوس quot; الناشئ عن مأزق الاختيار الذي يبدو بأن لا بد منه، بينما يحلم البعض الآخر بأن تنهي أمريكا هذا الكابوس بإسقاط النظام في إيران كما فعلت في العراق بالأمس، في حين يحلم البعض الثالث بأن تنسحب الولايات المتحدة من العراق ويأتي جيش الولي الفقيه وحرسه ليملأ الفراغ. يراهن بعض ذلك البعض على quot;ماكينquot; أو quot;أوباماquot; ليفرض واقعا جديدا أو يأتي بحبل إنقاذ لن يأتي أبدا، لأن سياسات الدول تعتمد فقه المصلحة، لا فقه العمامة أو التكية، ولأن ليس هنالك في الولايات المتحدة علي خامنئي أو صدام حسين ليقل للشيء كن فيكون. فالولايات المتحدة لم تأت لتتنزه في العراق، ولم تأت لأن فلان أو علاّن أقنعها بذلك كما تروي أساطيرنا السياسية، ولم تأت بطبيعة الحال لتهدي للولي الفقيه ربع خزين البترول في العالم، أو لتبحث عن المهدي في أزّقة العراق كما يقول مرجع الغد مقتدى، وسواء أكان على الكرسي ماكين أو أوباما، فإن قرارهما العراقي مرتبط بمصالح الدولة الكبرى أولا وأخيرا وإن اختلف الأسلوب، لا بمصالح الائتلاف الموحد أو الكتلة الكردية أو صحوات الرمادي.
المأزق بات واقع حال للحكومة العراقية، وهو نتيجة طبيعية لقصر النظر السياسي العراقي والأمريكي على حد سواء منذ اليوم ldquo;صفرquot;، هذا بافتراض حسن النوايا، التي أتضح بأنها لم تكن quot;حسنةquot;من قبل بعض الأطراف. فقد اختارت أمريكا أبعد الحركات السياسية العراقية عن الديمقراطية بل ومنها من يجرّم الديمقراطية بكرة وأصيلا، وأقلها التزاما بالعراق وطنا ومبدأ، لتؤسس بهم نظاما تدعي أنه ديمقراطي في العراق. وتذكرني حكاية أمريكا هذه بحكاية بريطانيا عند انسحابها من عدن في ستينيات القرن الماضي، وهي على ذمة أحد مسئولي نظام اليمن الجنوبي الأسبق وأحد قياديي الجبهة القومية آنذاك الذي قال quot;لقد اختارت بريطانيا أكثر المجموعات المقاومة لوجودها مراهقة وتطرفا وأقلها خبرة وحنكة لتسلم لها مقاليد الحكم في عدن عندما قررت الانسحابquot;، ولن أزيد على ذلك فلن يصعب على الفطن قارئ التاريخ أن يربط بين المثالين ونتائج الاختيارين الأمريكي والبريطاني.
وبدلا من تطبيب جراح هذا الشعب المنكوب الذي أورمته عقود من الحروب والمجاعات، بل وبعد خمس سنوات عجاف من تراكم الأخطاء والجثث والكوارث، لم نسمع بأن حكام اليوم، مثلهم مثل أقرانهم اللذين أطاح بهم الأميركيون بالأمس، جلسوا يوما لتقييم التجربة والأخطاء والكوارث التي حلت بهذا الوطن المنكوب، فقراءة التأريخ القريب والبعيد (ولا أي نوع من القراءة) لم تكن يوما من فضائل حكام هذا الجزء من العالم، ولا الاعتراف بالخطأ ولا التراجع عنه، ولذا تجدهم أخيرا في موقف كما هم اليوم بين المطرقة والسندان، فلا شعب ملكوا قلبه وعقله ليقف بجانبهم أيا كان قرارهم، ولا دولة لها من الرصيد الإقليمي والدولي ما يساندهم لأي من الموقفين، ولا حتى جيش يدافع عن خيارهم. وهاهم في صدمة انخفاض أسعار النفط التي توقعها كاتب هذه السطور في مقال سابق، في بلد لا دخل له سواها.
الاتفاقية ليست متكافئة كما يقول البعض.. نعم هذا صحيح، وما الذي يجبر الولايات المتحدة على عقد معاهدة متكافئة وهي دولة كبرى محتلة لدولة صغرى تعتبرها خزانا للنفط ومصّدا لأعدائها ليس إلا. وقد سبق لكوريا وألمانيا واليابان وكثير غيرهم أن وقعوا معاهدات غير متكافئة، وها هم اليوم فيما هم عليه. والتاريخ مكتظ بلحظات تتم فيها التضحية بأشياء مقابل أشياء أخرى لإنقاذ وطن في ظرف معين، وقبول أهون الشريّن أحيانا لعبور لحظة تاريخية بعينها، على أن تكون الأنظار مركزة على الوطن لانتهاز اللحظة المناسبة لإعادة بنائه وليكون حينئذ لكل حادث حديث. فإن كان البعض يرى في المانيا أو كوريا أو اليابان أو مجمل أوربا دول ناقصة السيادة quot;تئن تحت نير الاحتلال الأمريكيquot; ويرى في كوريا الشمالية وإيران والسودان دولا كاملة السيادة ومرفهة ومزدهرة ومتطورة، ويرى الصين مخطئة لأنها انتظرت قرنا لاستعادة هونج كونج عوضا عن خوض حرب التحرير المقدسة التي قد تأتي على الملايين، فليدفن الاتفاقية اليوم قبل الأمس وليعد إلى عصر أمهات المعارك والفتوحات الكويتية، وإن كان من يرفضها لأن طرفها الآخر أمريكا فحسب وليست روسيا، فليزن المخاطر في لحظة صدق مع النفس، أما إذا كان من يرفضها لسواد عيون إيران فله بشارة وطن تقوده نعال الفقهاء وسياطهم، وأوهام آخر الزمان ودولة العدل التي يجمدها نواب الإمام في ثلاجات التخلف حتى ظهوره ولو بعد ألف عام. أقول هذا وأفترض إن في كراسي الحكم العراق من يضع العراق في قلبه وبين عينيه، أما إذا ثبت العكس، وقد ثبت على الكثيرين منهم بالفعل، فالسلام على العراق بالمعاهدة أو بدونها.
لم يع حكام اليوم بعد بأن من يتحدث كثيرا يعمل قليلا، وبأن السياسة والاقتصاد علوم لا أحلام، وبأن فن الرقص على الحبال ممكن ليوم أو يومين أو سنة ولكن يوم الاختيارات قادم لا محالة، وجاءت المعاهدة اليوم لتحشر الحكومة في ركن صعب لا تحسد عليه، فلنا كأفراد أن نرفع أصواتنا رفضا أم قبولا، فلا مسئولية ولا خسائر أكثر من أن ينتقدك هذا أم ذاك، أما الحكومة فإن رفضها أو قبولها مسؤولية تاريخية تجاه ملايين من الناس في العراق وخارجه تترتب عليه تبعات تتراوح من احتمالات التدخل الإقليمي المباشر، حتى توفير لقمة الخبز والماء النظيف لمواطنيها، بل وحتى سقوط الكراسي ذاتها. فأميركا راحلة عن العراق يوما، قد يكون غدا أو بعد غد في عالم تقوده متغيرات عديدة قد لا تحسب على المدى القريب، ولكنها لن تأخذ العراق معها، وستبقى هنالك إيران وسوريا والسعودية وتركيا وغيرها، ولكن علّة الأنظمة في اعتقادها بأنها خالدة خلود الأوطان فتختزل الوطن فيها وفي شخوصها ولذلك لا تلبث أن تسقط quot;بنفخةquot; من الخارج ودرس الماضي القريب لا يزال ماثلا للعيان، وهو الدرس الذي لا يعيه أحد هنا على طريقة quot;جئنا لنبقىquot; كما كان البعث الراحل يروج حتى صّدق نفسه ورحل في أسبوعين بعد ثلاثة عقود من حكم النار والحديد.
حديث المقاومة
من الطبيعي أن تنشأ مقاومة في أي بلد تحتله قوة أجنبية، ولكن من غير الطبيعي أن تفشل هذه المقاومة في التحول إلى ظاهرة شعبية، ومن غير الطبيعي ألا تكون حديث الناس ليل نهار، بل ولا حتى هاجسهم إلا في خارج الوطن وعلى الانترنت. في العراق كانت المقاومة موضعية، ليس لأن ملايين الناس خونة وعملاء ولكن لأن المقاومة ببساطة سقطت في ذات الحفرة التي سقطت فيها الحكومة فارتدت لباس الطائفية والمناطقية بل وعجزت عن إصدار خطاب وطني يتطلع إلى المستقبل، وعوضا عن كسب تعاون الجمهور حبا وقضية، عمدت إلى إرهابه كما فعلت عندما كانت في السلطة فباتت ndash; رغم كل اللافتات المعلنة- محصورة في فصيلين فحسب، أحدهما يعمل لإعادة ما مضى وبنفس الشعارات وبدون إقرار بالأخطاء التي قادت العراق إلى هذه الهاوية، ولا يزال يسبح في بحر عبادة الشخصية والخطابة الخمسينية ويتبادل ألقاب التمجيد والتأليه بين من بقي منه، وآخر يحاول فرض واقع ماضوي بغيض لا وجود له إلا في كتب ما قبل ألف عام، فيتحدث عن خلفاء وولاة وثغور، ويذبح الجميع في طريقه فيفقد حاضنته المباشرة بل وحتى غطاءه الطائفي، كما وسقط الفصيلان في دوامة العنف الأعمى حتى بين بعضهم البعض، وللقارئ أن يقرأ بيانات الفريقين حتى اللحظة يتهم أحدهما الآخر بالخيانة والكذب والمبالغة وحتى العمالة.
لم يفرز الوضع العراقي مقاومة تدعو إلى غد مشرق أو ديمقراطية أو تنمية أو مساواة أو حريات أو مجتمع مزدهر ينعم أفراده بالثروة والحقوق الأساسية للإنسان، كما يفرز سلطة تعمل من أجل ذلك، مما يشير إلى خلل بنيوي في تركيبة العقل السياسي العراقي حاكما كان أم معارضا أم مقاوما.
كنت أتمنى على من يحكم العراق اليوم، إن كان يحكم فعلا، بأن يصدر الأوامر فورا إلى الناطقين الرسميين وغير الرسميين بالكف عن حديث المنجزات العملاقة التي تحققت والتي ستتحقق، وليخرج على الملأ ليخبرهم صراحة بما في الاتفاقية ولماذا يرفضها زيد ويريدها عمرو، ويعلن إلغاء وسائل الإعلام الرسمية المصّفقة، ويأمر جيوش الميليشيات بأن تمسك بالمكانس لتنظف الشوارع عوضا عن قتل المواطنين، ويصدر عفوا عاما وينفذه فورا بلا قيد أو شرط، ويعلن موت الطائفية السياسية وبالقوة ويدعو الجميع إلى الحوار على مائدة الوطن، وحينئذ فقط سيتسنى له رؤية طريق القبول أو الرفض. قد يبدو هذا ضربا من الخيال، ولكن الأمل بالجيل القادم من الشباب لا يموت أبدا، ولا بد أن يفرز نخبا جديدة من قلب المأساة لا بد وأن في قلوبها وطنا اسمه العراق، ولا بد أن تحقق الأحلام التي وأدها سيل من أجيال الكوارث من الخمسينيات وحتى الألفية الثالثة.