حكايات الاحتلال وتصحيح بعض المفاهيم (٩)
نستمر في مراجعة تاريخ مصر استنادا إلى حوليات كتاب quot;تاريخ البطاركةquot; الذي استمر بعد وفاة مؤلفه ساوري (ساويرس ابن المقفع، حوالي سنة ١٠٠٠) بيد كتّاب آخرين.
ماذا حدث بعد رحيل صلاح الدين (١١٩٣) ذلك العاهل الذي ترك مملكة واسعة وعددا كبيرا من الورثة؟؟
٢٥ ـ في أيام الأنبا يوأنس، البطريرك الرابع والسبعون (١١٨٩ـ ١٢١٦). يذكر كاتب السيرة أبو المكارم ابن بركات ابن أبو العلا:
[[وملك بعد (صلاح الدين) ولده العزيز عثمان ديار مصر وأعمالها والبيت المقدس وأعماله. وقد كان صلاح الدين قد هادن الفرنج فلم يغدروا بعد موته ولا فسخوا هدنة (..) ولم يكن للأجناد (عملٌ) مدة سنين الهدنة فمسكوا أيديهم عن بيع الغلة فبلغ القمح مائة وسبعون دينارا للمائة أردب وكان السعر لا يثبت على حال (..) فتضرر الناس ثلاث سنين. ثم أن الملك العزيز جمع العسكر وسار من مصر إلى دمشق (١١٩٤) يريد أخذها (من أخيه) الأفضل، فلم يقدر فعاد للقاهرة. ثم تبعه (عمه) الملك العادل (الذي على مملكة الكرك، جنوب مدينة عمان الحالية) وحاصر القاهرة شهورا ثم تصالح مع العزيز وعادا معا لدمشق فأخذوها من الأفضل]].
[[وفي (١١٩٧) تواصلت مراكب الفرنج إلى عكا فبادر الملك العادل ونزل على يافا وقاتلها ثلاثة أيام ففتحها وقتل فيها خلقا كثيرا وسبى أكثر مما قتل. ثم تواصلت مراكب الفرنج وطلع منهم إلى الساحل خلق كثير (..) وسار الملك العزيز إلى الشام لمساندة عمه (..) ثم هادن العادل الفرنج على البر دون البحر مدة ستة سنين (..)]].
[[مات الملك العزيز (في ١١٩٨ إثر حادث صيد) وتولى ولده يوسف، وكان صغيرا فجاء (عمه) الملك الأفضل وملك ثم جمع العسكر وسار إلى دمشق يطلب استعادتها من عمه العادل (ففشل) وعاد لمصر (..) فجاء العادل (أخ صلاح الدين) (يطارده) وحاصر القاهرة واستولى على الحكم (في ١٢٠٠) وأحضر ولده الكامل من دمشق وسلطنه على مصر وضرب اسمه على (النقود) وأمر خطباء الديار المصرية ألا يذكر أحد منهم صلاح الدين ولا أحدا من أولاده، بل يذكروا الخليفة (العباسي) أولا، ثم الملك العادل ثانيا، ثم (السلطان) الملك الكامل ثالثا (..)]]
**لاحظ مشاكل quot;التوريثquot; بعد رحيل quot;المالكquot; وكأن البلاد مجرد إقطاعيات.
[[ثم قطع الله (الفيضان) في تلك السنة فشرقت البلاد وخربت وهلكت الرعية وتشتت الخلائق ومضى خلق كثير من ديار مصر للشام بأموالهم وأولادهم لكنهم ماتوا (في الطريق) بالبرد والجوع والقتل من العربان وأخذ النفوس والأموال وكانت رمم الخلق من باب بلبيس إلى باب غزة هم ودوابهم ومواشيهم؛ فكانت ثلاث ضربات ضرب الله بها المصريين: الغلاء والجلاء والوباء (..) وبلغ القمح دينارا الويبة مغربلة، وقدح الترمس المبلول درهما. فباع الناس من الأثاث والقنايات والدور والجواري والعبيد مما قيمته دينار بدرهم. وناس كثيرن باعوا بنيهم وبناتهم كالمماليك للخدمة (..) وكان الولد يخطف الخبز من أبيه حتى يحيي نفسه. وأكل الناس لحوم (الحيوانات) الميتة. وكانت نساء يعجزن عن الرضاعة فيرموا أولادهم في الجوامع والمساجد والطرقات فيأتي آخرون ويأخذوهم، وأمسكت الشرطة نساء كثير ومعهم قدور بها لحوم ناس صغار وكبار مطبوخين (..). وكان القوي يقوى على الضعيف فيأكله وهان الموت وانقطعت الحنّيّة من قلوب الناس وانقطع الرجاء وحصل اليأس وخربت المدن والقرى (..) وكان كبار الناس بمصر والقاهرة من أهل الخير من المسلمين والنصارى يتصدقون على الفقراء كلْ قدر طاقته. واستمرت هذه الأمور سنتين حتى نظر الله جلت قدرته ورحم الخلق (..)]].
[[وكان الملك العادل قد احتوى على مُلك مصر والبيت المقدس ودمشق ومن خلف الفرات وحران وعدة أماكن وقرى لم نعرف أسماءها، وكان ملكا عادلا حريزا قويا كثير الغزوات في (أراضي) الفرنجة والمسلمين]].
[[وأرسل ملك الحبشة يطلب أن يرسم له البطرك مطرانا وكان بصحبة الرسل تاج ذهب هدية للبطرك وهدية جليلة للسلطان (تشمل) فيل وسبع زراف وحمار وحشي، فأخذ البطركُ الرسلَ والهدايا للملك الكامل فاستحسن التاج وقال ما كنت أظن أن عندهم من يعمل هذا فقال الرسول: laquo;يامولاي الملك نعرف اتضاع البطرك وإنه ما يلبسه وإلا كنا كللناه بجواهر قيمتها خراج ديار مصر جميعهاraquo;. فتعجب السلطان وسأله عن ملك (الحبشة) وعسكره وحروبه، فأخرج كتابا منه للسلطان فقرأه ووجد من جملته يقول laquo;ومملكتك أيها الملك محفوظة بصلوات البطرك الكبير العظيم الجليل فاحفظه واكرمه، وتقدم له أن يقسم لنا مطراناraquo;. (..) وأمر بتسلم الهدية لكن البطرك ترك له التاج، وحلف بحياة والده الملك العادل أن يأخذه أيضا، فقبل؛ وأمر بعودة رسل الملك وأن يقسم لهم مطرانا]].
**لاحظ أن تبعية كنيسة الحبشة (والنوبة) للكنيسة القبطية كانت من أهم عوامل استقرار أحوال مصر على حدودها الجنوبية، وهو ما جعل الحكام المسلمين يتحاشون القضاء عليها (الكنيسة القبطية) بل اعتبرها بعضهم من مصادر قوتهم في الحكم...
[[ثم أسلم راهب من دير أبو مقار اسمه يوحنا على يد الملك الكامل، فجعله على منية غمر وأقام فيها ثلاث سنين محتسبا. وبعد ذلك تذكر دينه ورهبانيته فأخذ (قطعة قماش) ومنديل ووقف للملك الكامل وقال هذا كفني: إما تقتلني أو ترد لي ديني، فوقع له إلى كافة الولاة بأن يرد له دينه، فلبس ثياب الرهبنة و (تظاهر) بدين النصرانية. وأقام على ذلك زمانا إلى أن اتفق أن رجلا نصرانيا من أهل الصعيد أسلم ثم ندم فأخذ كفنه للملك العادل قبل سفره لدمشق وقال له: ترد لي ديني كما رد ابنك الملك الكامل على الراهب دينه، فلما سمع الملك (استدعى الراهب) وجدد إسلامه على يده وأعاده محتسبا على منية غمر (..)]].
**لاحظ كيف أن laquo;حرية العقيدةraquo; في الدولة الإسلامية دائما quot;أحادية الاتجاهquot;، والقصة أعلاه بالسماح quot;بالارتدادquot; استثناء نادر ـ وإن كانت النهاية laquo;السعيدةraquo; هي أن الراهب السابق قد انتهى، على أي حال، وبتشجيع من الملك quot;العادلquot;، بالبقاء في الإسلام...
[[ ثم حضر (ذلك الراهب السابق) إلى الملك الكامل وقال له أن الرهبان حفروا بئرا في دير أبو مقار فوجدوا فيها (كنزا من عهد الروم) أواني و (مصوغات) كثيرة (..). فندب الملك الكامل معه ثلاثة مماليك وشهودا، وساروا للدير (..) وأخذوا كل ما وجدوا (بما فيه) أواني القربان وستر حرير للهيكل وأثبتها الشهود في الأوراق وحملوها للقاهرة بين يدي الملك (..) فأحضر الملك عرفاء الصاغة والبرازين وقوّموا المصاغ والستور الحرير وجميع الآنية (..) وأحضروا رجلا من أهل اسكندرية اسمه بطرس ابن يوحنا كان شماسا ببيعة السيدة بها وأسلم، فقرأ للملك الكتابة القبطية التي على الكاسات والصواني والصلبان والملاعق، اسم كل من صنع شيئا عليه (أي أنها ليست من عهد الروم). فتعجب الملك الكامل وأمر أن يستحلف ثلاثة شيوخ من الرهبان أن هذه الآنية لم توجد في بئر. ثم أحضروا البنّاء الذي حفر لهم البئر، وكان رجلا مسلما، فشهد بين يدى السلطان أنه الذي حفر البئر وبناها ولم يكن فيها شيء فصدقه السلطان. وقال له الحكيم أبو شاكر: laquo;يا مولانا، كان قد رُفع للملك الناصر صلاح الدين رحمه الله (شكوى) في هذه الآنية وأحضرها وعلم كذب الشاكي وأعادها لديرهاraquo;. فعند ذلك أمر الملك الكامل بتسليمها للبطرك فخرج واشترى شمعا كثيرا ودار به في شوارع القاهرة وأسواقها والنصارى تصرخ بالدعاء للسلطان وكان يوما مشهودا وصعب على الشامتين بمصر دوران الصلبان في أسواقها وشوارعها ولكن لم يجسر أحد يتكلم أو يمد يده بسبب هيبة الملك الكامل خلد الله أيامه]].
**لاحظ أولا قدر طفاسة وهيافة وجشع الملوك laquo;الكاملين العادلينraquo;، وكم أضاعوا من وقتهم الثمين في الاستقصاء حول quot;كنزquot; مزعوم؛ ولاحظ ثانيا كيف أن تاريخ خيانة الأقباط لذويهم قديم؛ ولاحظ ثالثا مقدار سذاجة الأقباط وتهافتهم وقد خرجوا في الشوارع يهتفون للسلطان لأنه أعاد لهم آنية كنسية لم يكن من حقه الاستيلاء عليها أصلا، وكيف شعروا بالفرح لأن أحدا لم يتعرض لهم وهم يدعون للسلطان في الشوارع (!) وكله مما يبين حقيقة أحوالهم وانخفاض laquo;سقف طموحاتهمraquo; ليتوافق مع أوضاع ذميتهم الذليلة في الدولة الإسلامية العادلة...
[[وبعد ذلك جاء راهب آخر من دير أبو مقار، اسمه عبد المسيح المصور، وقف للملك الكامل وكتب له رقعة في حق البطرك أنه laquo;في كل سنة يحمل إليه الأساقفة مال كثير، وكان البطاركة الذين قبله قد جرت عادتهم أن ينفقوا على مراكب الأسطول (السلطاني) من أموالهمraquo;. فعرض القاضي الأعز صاحب الديوان الرقعة على الملك الذي (تحقق من كذب الرقعة) وقال: إن كان غيرنا ظالما ما نكون نحن مثله، دع هذا الراهب بمضي إلى ديره حتى نطلبه (!!) فمضى بوجه مخزي وحرس الله البطرك من كيده (..)]]
[[وجرت في أيام (البطرك) من الأمور الصعبة ما قدمنا ذكره ولو ذكرنا كل ما جرى في أيام رئاسته في جميع الديارات المصرية لم نبلغ ذلك (..) ثم تنيح يوم (٧ يناير ١٢١٦) وهو يوم الغطاس المقدس (*)]].
(*) لاحظ أن الأعياد عند جميع المسيحيين في العالم كانت متفقة حتى عام ١٥٨٢م، حين ضبط الغربيون تقويمهم بالتعديل الجريجوري.
٢٦ـ بعد وفاة الأنبا يوأنس بقي الكرسي شاغرا حوالي ٢٠ عاما نتيجة عوامل متعددة. وكان الحكيم أبي شاكر عند السلطان عندما بلغه خبر الوفاة فسأله كيف يعملون لاختيار البطرك، فقال: laquo;يا مولانا نختار ثلاثة رجال أخيار أتقياء علماء يقع الاتفاق عليهم ويكتب أسماؤهم في ثلاث رقاع ونكتب في رقعة أخرى إسم السيد المسيح ويترك الجميع على الهيكل ونصلي ثلاثة أيام بطلبات كثيرة وابتهال متواتر ثم نحضر طفلا صغيرا ليرفع واحدة من الرقاع بحضور الشعب كله فإن وجدنا فيها إسما من الثلاثة قدمناه بطركا علينا وإن وجدنا اسم السيد المسيح علمنا أنه لم يرض عن أحد من أولئك ونرجع نختار ثلاثة أخر ولا نزال هكذا حتى يطلع اسم فنقدمه (*)raquo;. فأعجب السلطان بذلك. وسأل عن عمل الأنبا يوأنس (المتوفي) قبل بطركيته [[فقال له قسان (من مقدمي الجماعة): كان تاجرا. فسأل: فمن خلّف من الورثة، قالا: أخته. فسأل كم لها من الميراث. قالا النصف، وقد غلطا في هذا لأنهما عملا على شرع المسلمين بينما شريعة النصرانية توجب للأخت جميع الميراث إذا لم يخلف غيرها. فسأل لمن النصف الآخر، فقالا لك يا مولانا. فطلب نصيبه. فقالا بل اسأل أولاد اخته، فأمر الوالي أن يحضر المتبقي واسمه مكارم فأحضره معتقلا...]].
(*) لاحظ أسلوب laquo;القرعة الهيكليةraquo; في ذلك الوقت...
وانقسم القبط إلى شيع وجماعات تحبذ كل منها مرشحها. وتدخّل السلطان ومعاونوه وبعض الولاة في صالح هذا المرشح أو ذاك، وطلب السلطان أتاوة. وحاول البعض دفع الرشاوى..
وإلى أن تحل الأمور، سجل كاتب السيرة:
[[وفي (سبتمبر ١٢١٧) تواصلت أخبار أن أحد ملوك الفرنج يقال له الهنكر (هنجاريا، أو المجر) وصل إلى عكا بحرا (..) فجمع الملك العادل عساكره ونزل على نابلس قريبا من الإفرنج (..) وأرسل إلى أولاد أخيه صلاح الدين وغيرهم من ملوك المسلمين أن يساعدوه فلم يجبه أحد، فتوجه لدمشق (..) وعلم أن بعض الفرنجة توجه إلى الطور لأخذ حصنها الذي على جبل عال، يعاونهم عرب من بني عقبة (المتحالفين) معهم. فجاء الملك المعظم (عيسى ابن العادل، ملك دمشق) وأرسل إلى بني عقبة فأفسدهم على الفرنج وحلف لهم أنه يدفع لهم مالا قرره معهم، ويُُقطعهم بلادا (..)، فأطاعوا وحلفوا له (..) وقالوا إن الفرنج ينامون بالليل فاكبس عليهم نصف الليل (..) فانتصر عليهم وقتل أكثرهم (..)]].
[[ولما رجع ملك الافرنج من الطور إلى عكا عبر على قرية من قرى الغور فيها نصارى ملكية وسريان ومسلمين، فترك عندهم أربعة فرسان جرحى ليداووهم، ثم مضى. فقام مسلمو القرية على النصارى وأخذوا (الفرسان) وقتلوهم (..) ووصل الخبر إلى الملك بعكا فأرسل عسكره وقتل كل من بالقرية، لأنه كان قد سأل النصارى هل عندكم مسلمين قالوا لا، فلما رجعوا يعتذرون أن المسلمين قتلوا الفرسان لم يقبل عذرهم. وقتل قسيس الكنيسة لأنه كان قد حلف لهم أنه ما في القرية مسلما]].
[[وفي تلك السنة مات (الكثيرون) من الناس والأبقار في جميع ديار مصر (بسبب الطاعون) كما حدث قبل زوال دولة الخلفاء الفاطميين]].
** ويستكمل السيرة يوحنا ابن وهب، التي قام بجمعها laquo;علم الملك ابن شمس الرياساتraquo;:
[[وحدث أن صبيا نصرانيا صعيديا يعمل في بعض معامل الزيت، اتهمه انسان من المسلمين بابنه صغير السن (..) فاعتُقل أياما وعُرض عليه الأسلام فأبي، فأفتى الفقهاء برجمه وأن يعملوا دائرة من الناس ويجعل فيها فرجة فإن هو خرج وسلم لا يُعارَض وإن مات كان بحقه. ففعلوا، فضربه عبدٌ لأبي الصبي بحجر في فكه فوقع وتواتر عليه الرجم إلى أن مات. وبعد هنيهة (اعترف) الولد أن النصراني كان بريئا وأن الفاعل للقبيح هو ذلك العبد..]]
[[وفي هذه الأيام أمر السلطان عز نصره بعرض المسجونين عليه، وكان بينهم رجل حائك، يسمي أسد، وكان قد تخاصم مع امرأته فأخذته إلى (محكمة) الشرع، فجرت منه لفظة شهد عليه بالإسلام ولكنه أنكر، فاعتقل وبقي مدة سنة إلى أن أحضروه للسلطان فرغّبه ووعده بمال وكسوة فامتنع وقال: laquo;ما أنا إلا نصراني، وعلى نصرانيتي أموتraquo; (..) ولم يزل الحال يتردد إلى يوم الغطاس المجيد فأمر السلطان بضرب رقبته، فأحضره والي القاهرة عند باب زويلة وأحضر الشهود وعرض عليه الإسلام قدامهم فامتنع. فتقدم إليه أحد المماليك فنخسه بالسيف إلى أن دخل منه قدر أربع أصابع. ثم قال له: مد عنقك، فمده فضربه ضربة طارت بها رأسه عن جسده وعُلق بدنه على باب زويلة. وبقي معلقا ثلاثة أيام (*) ومجد الناس الله على صبر الرجل وحسن إيمانه، واجتمعت جماعة من النصارى المباركين فأخذوه ودفنوه]].
(*) كم من الناس البسطاء مثل هذا الرجل دفعوا حياتهم ثمنا للعدل والحرية الدينية في الدولة الإسلامية؟!
[[وفي (يونيو ١٢١٨) جاءت مراكب كثيرة ونزل (جنود الفرنجة) مقابل دمياط (وتبادلوا مع المسلمين القصف بالمنجنيقات) وقتل وجرح من الفريقين كثير (..) ثم أخذوا برج دمياط. وفي نفس في اليوم مات الملك العادل بدمشق من تخمة أصابته فدفنوه بجانب أخيه صلاح الدين (..)]].
[[واجتمع على الناس في تلك السنة موت السلطان ونزول العدو على البلاد وشحة النيل والكنيسة خالية من بطرك. ثم أن المسلمين اجتمع رأيهم على أن يزحفوا إلى الفرنج وكانت وقعة عظيمة (هُزموا فيها) (..) واشتد الرعب وخافت نفوس الناس وعظمت مهابة الافرنج وانحلت العزائم عن لقياهم. ودخل الشتاء (..). ثم (وشى) المدعو عماد الدين ابن المشطوب بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الفائز، فخاف (الكامل) أن يقتله الجنود الأكراد ويولوا مكانه الفائز، فهرب بالليل مع خواصه ومماليكه إلى أشمون (..) ووقف معه الأمراء الأكابر. فأما المغاربة والطواشين فإنهم ساحوا في البلاد وبقي الناس متخبطين وكثرت الشناعات على النصارى واشتد بعض القوم عليهم. (..)]].

[[وثار أهل منية (ميت) بني سلسيل (بين أشمون والمنزلة) على النصارى وأهلكوا منهم جماعة وكان الزمن كلما مر اشتد، والفتنة كلما مرت عظمت..]].
ثم فرضت أن تدفع جزية القبط لسنة قادمة قبل موعدها [[(..) وبعد ذلك ورد أمر السلطان بإخراج نصف أهل مصر والقاهرة إلى القتال اختيارا واضطرارا. وخرج أكثر الناس وصار (الأغنياء) الذين لا يليق بهم الخروج يفدون أنفسهم بما يقومون به من الذهب كل على قدر حاله. وأما النصارى الذين بالقاهرة فإنهم جبوا منهم مع أصحاب المعايش كل من كان متمعشا مع أهل معيشته (..) وأحضر الوالي قسس كنائس القبط والملكية وقال لهم (إذا) خرجتم مع المسلمين، فما تصلون إلى باب المدينة حتى يقتلوكم وما يقدر أحد أن يقول لهم شيئا. وكان الميل في القول بالأكثر على الملكية لأنهم كانوا يشنعون عليهم بأنهم يحبون الافرنج وأنهم على سُنّتهم في تربية الشعر وترك الختان وما شابه، فعمل فيهم الخوف وقال واحد منهم عندنا ألف دينار فقال مبارك، وقال لقسوس القبط وأنت عليكم عشرة أضعاف وآخر الحال قرر عليهم ثلاثة آلاف دينار (..). وعلقت سلبة (*) في كنيسة المعلقة وكنيسة الملكية وكنيس اليهود (..) وصار الضرب في الناس والتعليق والترسيم والهوان (..) وكان الصوم المقدس وكانت أياما صعبة شديدة واضطهاد عـظيم. فأما الملكية فإنهم جبوا من شعبهم الذي قدروا عليه وبقي عليهم، فأخرجوا آنية (الهيكل) الفضة ورهنوها عند واحد من المسلمين، الفقيه نصر، على مائتي دينار (تدفع) بمائتي وخمسين (**). ولا أحد بقي بدون غرامة إلا النادر القليل. وكان جملة ما حصله (القبط) ألف ومائة دينار (..) وما تبقى قضوه على الكنائس، كلٌ بقدرتها حتى وصلوا إلى الديارات البرانية مثل دير طموه ودير الشمع وأخذوا منها الغرامات المقررة وطلعوا للقاهرة يطلبون تبرعات (..) وكانت أياما شديدة وكثير من الكنائس أغلقت أياما كثيرة]].
(*) فلكة من الخشب والحبال ليجلد عليها من لا يدفع الجزية أو الغرامة.
(**) أي ربا بنسبة ٢٥٪
[[وكان (السلطان) قد استخدم (لمحاربة الفرنج) من القاهرة عشرة آلاف راجل، أكثرهم مغاربة، فهدموا كل كنيسة وجدوها في طريقهم للمعسكر (..) ولم ينالوا غرضا لأن الفرنج عملوا خندقا وتحصينات (..). ثم أن السلطان هدم أسوار القدس الشريف بعد أن أخلاه من أهله (..) وهدم الدور والفنادق (..)]].
[[وشغب المسلمون بكنيسة القديس مرقس بالاسكندرية (القمحا) وتقدم أمر السلطان بهدمها (..) (وحاول القبط إبقائها، لكن) هُدم أكثرها حتى لم يبق منها سوى قامة واحدة. فلما كان يوم الجمعة التالي صلى المسلمون صلاة الجمعة وخرجوا وهدموا باقيها إلى الأرض (*) وكان حزنا عظيما وكآبة متواترة وشدة متظاهرة]].
(*) بني جامع مكان الكنيسة بعد هدمها (هوامش ج ٤ ص ١٣١).
[[وزحف الإفرنج برا وبحرا (..) ثم تراجعوا عند خندق المسلمين فطاردوهم وصارت عليهم كسرة عظيمة (..) وفرح المسلمون فرحا عظيما وطُيرت الطيور وزُينت القاهرة (..) وحُمل الأسرى (١١ سبتمبر ١٢١٩) للقاهرة المحروسة وجرى حديث حول الصلح وكاد يتقرر على أن يأخذوا القدس وجميع ما كان في أيديهم مما فتحه (صلاح الدين) ثم انتقض الصلح وأمر السلطان بإخراج كل من بالقاهرة ومصر للغزاة، وضربت الأجراس بذلك وخرج الناس على وجوههم (..)]].
[[وبعدها أمسك والي القاهرة النصارى وعلقهم على أبواب دورهم وجعلهم يديرون الطواحين (مثل الثيران) وقال لهم أريد منكم المال وأخذ منهم ما لا يطيقون حتى أن (الترزية) النصارى بالقاهرة قاموا بألف وثلاثمائة دينار. واشتد الأمر على الناس (..) وأحضر والي مصر (الفسطاط) قسس النصارى وطلب ألف دينار (..) وخرجوا للكنائس وشرعوا في (جمعها) وكانت الأيام صعبة..]].
واستولى الفرنج على دمياط بعد حصار دام ١٦ شهرا [[فرحل (كبار) المسلمين وتركوا العوام وصار هم كل انسان أن ينجو بنفسه (..) وجاء السلطان فنزل مقابل طلخا (حيث أقام معسكر laquo;المنصورةraquo;). واختلف القول في فتح دمياط (..) وقيل أنه كان بها ستة آلاف رجل وقيل أحد عشر ألفا وأما المسلمون فكانوا يقولون أنه لم يبق بها سوى ستمائة نفس، وذكر المحققون أن بها ستة وأربعون ألف رجل خلاف النساء والصغار (..)]]

[[واستدعى السلطان صفيَّ الدين عبد الله بن على، الذي كان وزير أبيه، وقلده تدبير مملكته؛ فجمع الكتّاب مسلمين ونصارى ويهود وبسط عليهم العقوبات وطالبهم بالأموال فامتلأت السجون منهم، وخرج البعض من (دينه) من الشدة والعقوبة (..) وكانت أياما شديدة على الناس ولا يخرجون من شيء حتى يدخلوا ما هو أشد منه. وتوقفت دور الوكالات والفنادق التي تباع فيها البضائع. وتقرر ألا يباع شيء إلا بدار وكالة السلطان وتكون له السمسرة، وضاق الوقت على العالم ولو تمكنوا من الخروج لم يبق في البلاد أحد. وأما الإفرنج (بدمياط) فكانت ترد أخبارهم من العدل والرفاهية وحسن المعاملة ما لا يوصف (..)]].
[[ووصل مصر أمير مغربي، كان أبغض ما عنده النصارى؛ وأمسك أتباعُه النصارى واليهود بحبال ووضع عليهم العقوبة والهوان حتى أنه أخذ (صكوكا) بأحد عشر ألف دينار لكل منهم وسيرها للسطان فأكبر ذلك وأنكره (بسبب المبالغة الشديدة) وأعادها (..) وتوجه ذاك للصعيد للجباية على الديارية والثمار والنخيل واستمر الحال وزادت الشدة على الناس حتى أن جماعة شنقوا أنفسهم وجماعة خرجوا من الإيمان، ولم يفدهم ذلك]].
[[وأما أمر العدو (*) فكان على حال واحد (من المناوشات) (..) ووردت أخبار بخروج ملك من الشرق يقال له ملك الصين (جنكيز خان) ومعه خلق من الأتراك (التتار) وأنه كسر ملك الفرس وجاء لأرض بابل (العراق) (..)]].
(*) لاحظ الإشارة المتكررة للإفرنج باعتبارهم laquo;عدواraquo;.
ثم جاء الملك المعظم (سلطان الشام) والملك الأشرف (سلطان الشرق، حران وسنجار) ومعهم صاحب حمص وصاحب حماة بجيوشهم لمصر لمساعدة أخيهم السلطان الكامل، وهاجموا الفرنج بدمياط برا وبحرا (تفاصيل مطولة للمعارك..) وأخيرا اتفق الجميع على الصلح، على تسليم دمياط وتبادل الأسرى. [[وأخذ الفرنج معهم رهائن من كبار القواد خشية الغدر بهم ثم تركوهم في مركب بالبحر المتوسط (..) وعاد السلطان للقاهرة وكان يوما مشهودا وفرح الناس (..) وصارت بينه وبين ملك عكا (جان دي برين) صداقة عظيمة أكيدة والهدايا تحمل من هذا لذاك..]].
[[وتحدث بعض الأراخنة مع الوزير في إقامة البطرك فطلب خمسمائة دينار لبيت المال، وشرعوا في طلب المبلغ وتقسيطه على الكنائس فلم يقدر عليه أحد فتوقفت القضية وانقطع الحديث (..) وكانت المصادرات على حالها والسجون مليئة من الكتاب، والوزير لا يعرف إلا أن يحصّل المال للسلطان من كل وجه (..) وفي (١٢٢٦) رسم السلطان بفتح دار لسك العملة بالقلعة وخرجت الدراهم الجديدة وأمر ببيعها ٣٧ درهما بدينار وكان العتيق ٤٢ درهما بدينار (*) وكان الناس في ضيق عظيم وتخبط فالسلطان يطلب الأموال ويجمعها من كل وجه]].
(*) لاحظ تلاعب السلطان بالعملة..
[[وفي هذه الأيام، أسلم راهب من دير أبو مقار ووشى عند السلطان أن (هناك من يدخل الرهبنة هربا من الجزية). فرسم السلطان أن يخرج معه أمير للكشف عنهم وصار إلى أديرة (وادي النطرون) ولم يجعله كشفا، بل أمسك الرهبان ضربهم وعلقهم وعاقبهم إلى أن قطع عليهم ستمائة دينار وأحضر معه أربعمائة على أن يعود ليحصل الباقي (..) وحضر جماعة من مشايخ الرهبان ووقفوا للسلطان أعز الله نصره وشكوا قضيتهم فأمر أن يعاد لهم ما أخذ منهم، فأوقدوا الشمع وداروا به القاهرة كلها وكانت (إعادة السلطان المال) قضية تعجب منها كل أحد ومعجزة ظهرت من آباء الأديرة]] (!)
[[ثم تحرك أصحاب القس داود (ابن لقلق) لطلب البطريركية له واجتمعوا بإنسان قريب من السلطان أعز الله نصره وجعلوا للسلطان خلد الله ملكه ألفي دينار فطلب منهم ألفا معجلة والأخرى عند إنجاز القسمة (..) فمضوا واستدانوا ألف دينار بألف ومائتي إلى شهرين (..) لكن التناحر والمنازعة (بين القبط) كانت قوية، فأعيدت الألف دينار لصاحبها مع ربحها (..) وكانت الجزية في هذه السنة من (أهل) الذمة على كل رأس مائة درهم في القاهرة ومصر ومائة وعشرين في البلاد البرانية (*)]].
(*) أي أن الجزية زادت حوالي الثلث مع تغيير quot;العملةquot;..
[[وندب من المقام السلطاني قوم يقال لهم الصقاعون والكشاف خرجوا وطلبوا من الناس حق الجبانات والمقابر وثمن الطوب والحجارة التي بنوا بها بيوتهم، وادعوا ملكية الدور وقالوا البلاد كلها مٍلك السلطان وأنتم من أين ملكتم هذه؟ اثبتوا بالشرع وإلا قوموا بالأجرة منذ سكنتم (..) وكان رجل له التزام مكوس الذمة (الجزية وغيرها) بالقاهرة ومصر وكان عليهم منه ضرر عظيم وكان يظلمهم ظلما فاحشا]].
[[وفي أواخر كيهك عاد السلطان من الاسكندرية وجعل طريقه على دير أبو مقار واستضافه الرهبان ومن معه بما يوجد عند الرهبان. وأنعم عليهم السلطان بخمسمائة أردب غلة وكتب منشورا بأن من ترهّب لا يطلب منه جزية (*) وأن أي راهب يموت يكون ميراثه (للدير) وليس (للأقارب أو السلطان) وتحدثوا معه في أمر البطرك وقالوا يا مولانا قد تلفت أحوالنا وكان بهذا الدير حوالي ثمانين قسا وما فيه اليوم إلا أربعة فقال لهم اختاروا من شئتم وأنا أقدمه لكم (..)]].
(*) هذا يدل على أن الجزية كانت قبلها مفروضة علي الرهبان..
وفي ١٢٢٨ قدم الإمبراطور فريردريك من صقلية إلى عكا بناء على دعوة الملك الكامل للاستعانة به على أخيه المعظم ولكنه (المعظم) مات قبل وصوله، وتبودلت الهدايا وزادت الصداقة بينهما. وفي ١٢٢٩ [[أشيع أن السلطان عز نصره صالح الإنبرور (الإمبراطور) على أن يعطيه القدس الشريف (*) وبلاد على الطريق إلى عكا ومنها بيت لحم (..) واستتب الأمر بينه وبين السلطان خلد الله ملكه (..)]].
(*) كان هذا جزءا من اتفاق هدنة لمدة عشر سنوات، وبشرط ألا تبنى الأسوار وألا يتعرض الفرنج لقبة الصخرة أو للجامع الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق (القرى والحقول التابعة) إلى والي المسلمين.
[[وفي سنة (١٢٣٢) كانت زوجة أخ قسيس راهب، يعرف بابن سعيد، قد اشترت جارية رومية من رجل فرنجي ثم باعتها إلى أحد التجار المترددين من بلاد الفرنج. فلما بلغ مولانا السلطان ذلك أنكره غاية الإنكار وأمر أن يباع القس وامرأة أخيه وأختها (راهبة) ونودي عليهم في سوق الرقيق وكانت شدة ما سمع بمثلها فاشتراهم رجل مبارك أصله من الشام من المارونية وقد أسلم، فابتاعهم بستين دينارا (..) وأطلق سبيلهم]].
**غير مفهوم ماالذي أثار السلطان، وما ذنب أخ وأخت المرأة إن كانت أخطأت في هذه الحكاية التي تدل على هوائية وغرابة الحكام...
[[وحدث أن جماعة من الصبيان صاروا يلبسون الثياب الصوف ويتزيون بزي الرهبنة وهم في المدن ليحتموا من الجزية فأمر السلطان أن أي راهب لا يكون مقيما في دير منقطعا في البرية مشهود له بذلك تؤخذ منه جزيه. وما احتاج المستخدمون أكثر من هذه الكلمة ومدوا أيديهم إلى الرهبان وصاروا يأخذون الشيوخ الذين لهم خمسون سنة في البرية (وفرضوا الجزية عليهم) وخصوصا بالغربية كان فيها ناظر يقال له ابن القرمسيني وكان مبغضا للنصارى فجعل كيده في الرهبان فنالتهم أذية عظيمة (..) وجاء جماعة من الرهبان إلى باب السلطان عز نصره بهدية على قدر حالهم (..) وبعدها خرج الأمر بأن يجروا على (سابق) عادتهم بشرط ألا يُخفوا أحدا ممن يجب عليهم الجزية ولا يرهبنوا أحدا إلا بعد تنزيله في الديوان (السلطاني) ممن يستحق الرهبنة. وأخذوا الكتاب ومضوا به إلى الغربية ولم يفدهم شيئا]].
***
وإلى مقال آخر لنتابع ما جري في أواخر أيام الأيوبيين...