الثقافة هى التهذيب والصّقل، وأصلها أن العربى القديم كان يهذّب ويشذب ويصقل رمحه، بتحديد وتجلية سنـّه، فيقال إنه ثقف رمحه أو هذّبه أو صقله. والمجتمع، أو الفرد، المثقف؛ هو مجتمع أو فرد مهذب مصقول، والثقافة ndash; بهذا المفهوم ndash; تختلف عن العلم، إذ هى لا تقف عند حدود حشو العقل بمعلومات ومعارف تؤدى إلى اكتساب إجازات علمية (شهادات) ولو كانت الدكتوراه أو العالمية؛ لكنها تزيد على ذلك بأن تعْمل على إفادة الشخص من علومه ndash; بمعارفها ومناهجها ndash; فى ترفيع عقليته وتهذيب شخصيته وتشذيب تصرفاته، بحيث يصير شخصا مصقولا. وفى التقدير السليم فإن القيمة الحقيقية للمجتمع وللشخص تكمن فى صيرورته مثقفا مهذبا مصقولا، مثله فى ذلك مثل خام الماس، فهو ndash; وهو مادة خام ndash; يكون جافا غليظا قليل الشأن؛ أما حين يُصقل، بعد التهذيب، فإنه يصبح ثروة طائلة، ورؤيه هائلة، وشكلاً مُوحيا، وقيمة عالية، تتناقلها الأجيال وتتوارثها الدول.
فى المجتمع، ومع الفرد المثقف، تسير الأمور بسلاسة وهدوء، وتـُحل المشاكل على النور ودون إبطاء، ذلك بأن كل فرد يعرف ما للآخر بقدر ما يعرف ماله، ويفهم الأمور فهما سليما، ويعبّر عنها تعبيراً واضحا مفهوما للجميع. هذا فضلا عن أنه يدرك القانون وما وراء القانون، من تراثات وأهداف. بهذا يكون المجتمع كتلة واحدة أو خلية مفردة، يعمل كل واحد فيها لمعاونة الجميع ومساعدة الغير، فإذا حدث خلاف أمكن وضع حل، بل حلول له، كى يقف الخلاف عند حد يمكن إزالته، ولا يتطور أو يتعقد بسبب صيرورة المجتمع جزرا متفاصلة متباعدة، لكل واحد فهمه ولغته ومفرداته، التى تختلف - على اليقين ndash; مع غيرها، بحيث يصبح الخلاف خلافات، وتصير المشكلة مشاكل، وتؤول القضية إلى قضايا.
خارج العالم العربى، عندما يطلب الفرد شيئا من جمعية حكومية أو هيئة خدمية، أو وحدة تجارية، أو فرد عامل فى أى منها، فإن ما يقال له على الفور quot;No problem quot; أى لا مشكلة، ويُقصد بذلك حلّ المشكلة فعلا بحيث يكون للقول معنى مفيدا. أما فى العالم العربى فإنّ الفرد يصادف المشاكل تلو المشاكل فى كل عمل وأى تصرف فى حياته اليومية، فإذا أبدى على ذلك اعتراضا ndash; ولو بهدوء ndash; فإن ما يُقال من الطرف الآخر عادة (ما فى ndash; أو مافيش ndash; مشكلة) لكن المقصود بالتعبير ليس حل الأمور، لكنه الاستنكار ممنّ بيده الحل، كأنما يقصد أن يقول: وما هى المشكلة فى ذلك؟
هذا مثل من الواقع يبين كيف يحدث الخلاف وكيف يستمر وكيف يتضاعف دون أن يجد حلاّ، إذا حدث فى مجتمع أو مع شخص غير مثقف ؛ ولو كان يحمل أعلى الشهادات.
وفى هذا الصدد تشير الدراسة إلى أن أبى حامد الغزّالى دوّن ما ظنه أحاديث عن النبى (صلعم) فى كتابه (إحياء علوم الدين) مع أنها ليست أحاديث، ولم ترد فى أية مدونة من كتب الصحاح أو المسانيد المعترف بها، ومن هذه نصّ يجرى على أنه (علم لا ينفع وجهل لا يضر) وقد تلقف هذا القول أحد مشاهير الوعاظ الذى كان يعمل على تجهيل الناس لا تنويرهم ؛ فكان يردده على الدوام، مع أن فى الحقيقة ؛ لا يوجد علم لا ينفع ولا يوجد جهل لا يضر (هذا على فرض خلوص النية مع كل من يعلم علما). مثل هذا الوعظ يزيد الجهل فيزيد بالتالى المشاكل والخصومات التى لا تحل الا بتدخل من السلطة، شرطة كانت أم قضاء، وخلال رحلة العمر فى القضاء، فقد لاحظت أن الناس تكثر من اللجوء إلى الشرطة فى أمور ليست من عملها، فتحولها بذلك من الحجز بين الناس إلى السيطرة على الناس، كما أنها (الناس) تكثر من الاتجاه إلى القضاء، فتحول العمل القضائى من الكيف إلى الكم، الذى قد تضيع فيه الحقوق أو حتى يصعب الوصول اليها أو يتراخى تحديدها والفصل فيها.
وتقدم الدراسة فى ذلك نماذج من الواقع:
(أzwnj;)فقد كنت أمثـّل النيابة العامة أمام محكمة جنايات الاسكندرية فى واقعة هى جناية قتل، كانت أدلتها قوية وثابتة، غير أن كل ذلك ذهب هدرا بسبب جملة قالها الشاهد الرئيس عن جهل منه ؛ فقد سألته المحكمة عن المسافة التى كانت بينه وبين الجريمة حين رآها، ومع أنه ذكر المسافة تحديداً فى تحقيقات النيابة، فقد كان الجهل سببا فى نسيانه ما قال من قبل وإذا به يقول أمام المحكمة إن المسافة كانت عشرة كيلو (ولم يقل مترات ليحدد التعبير)، فاستغربت المحكمة أن يمكن لشخص أن يشاهد واقعة قتل من بُعد عشرة كيلو مترات وسألته: أنت عارف الكيلو قد إيه؟ فقال بتبجح الجاهل: إمّال، الكيلو رطلين وربع. وتلقف الدفاع هذا القول منه ليقوّض شهادته ويسقط أدلة الاتهام على تقدير أنه (الشاهد) لا يعرف ما يقول ولا يفهم ما يذكر.
لقد خلط الشاهد بين الكيلو فى الوزن والكيلو فى المسافة، وهو لا يدرى طبعا، لكنه الجهل وعدم الثقافة. والجهل دائما يضر، وبصاحبه أول ما يَضـُر، والقول بأنه (علم لا ينفع وجهل لا يضر) قول لا يصدر إلا عن جهل بالحقيقة وجهل بالمعرفة وجهل بالتنمية البشرية (التى سنتناولها حين يحين الحين).
(بzwnj;)فى مرة أخرى، وكنت رئيسا لمحكمة جنايات، وقف أمام المحكمة شاهد يتنطع وهو يدلى بشهادته فى قضية قتل مقترن بجريمة سرقة، أى إن القاتل قتل ليرتكب جريمة سرقة مجوهرات. وكان الشاهد يتزيد فى الكلام بما هو خارج السؤال رغم أن المحكمة طلبت منه أن يقصر إجابته على قدر السؤال الموجه إليه، لكنه لم يتوقف عن اتجاهه، وهو اتجاه الجاهل الذى يتعالم فيؤدى إلى النقيض بما يقول، وهو لا يدرى بأن ذلك محتم، لأنه غير مثقف (أى إنه جلف الطباع غليظ التصرف). قال الشاهد دون أن تسأله المحكمة إن المتهم كان يقصد جريمته كى ما يسرق خاتما من الماس وزن الماس فيه عشرون قيراطا. أدركت المحكمة على الفور أن قوله هذا سقطة وقع فيها نتيجة طبيعته، ولما سألته المحكمة: وهل تعرف ما هو قدر القيراط؟ أجاب بثقة الجاهل المتعالم فقال: الفدان 24 قيراط. زجرته المحكمة وهى تقول له وهل القضية بصدد خاتم من الماس أم قطعة أرض، فخجل ولم يتكلم.
إن المثقف يعرف الحدود ويفهم الفروق بين الأشياء، ولا يخالط أو يداخل بين الأمور، وربما كان يعرف أن قيراط الماس هو وزنة بذرة ثمار الخرّوب، وأن ذلك ابتدأ فى الهند وقت أن حدث اكتشاف الماس فيها، فصار عرفا متـَّبعا.
(ج) فى إحدى المدن الشهيرة بصعيد مصر، حدثت واقعة قتل. انتقل إلى مكان الحادث ضابط المباحث الذى كان يجهل علم الطب الشرعى، مع أنه أهم علم يلزم لممارسة عمله على الوجه السليم، كما كان يجهل نظرية الاحتمالات رغم أن من مقتضى هذه النظرية أن يكون للمسألة أكثر من حل إحتمالى، ذلك وذاك ضرورى لممارسة عمله دون خطأ جسيم، فكان فى عمله يجرى مجرى الجاهل المتعالم والمتعاظم. شاهد الضابط جثة المجنى عليه وفيها جرح بطول البطن من أسفل. ظن لجهله وتسرعه أن ذلك الجرح الذى أدى إلى مقتل المجنى عليه حدث نتيجة شق بطنه بأداة حادة، سكين أو ما ماثل، ولتعجله ولكى ينهى القضية بضبط أداة الجريمة والفاعلين، أحضر سكينا من عنده، ولوثها بدماء القتيل، ثم سأل عن أعداء هذا المجنى عليه، وأحضر اثنين منهما، وبالضغط عليهما بالتعذيب أقرا بارتكاب جريمة لم يرتكباها أبدا. أُخطرت النيابة فانتقل وكيل النيابة للتحقيق حيث اعترف المقبوض عليهما زورا بأنهما قتلا المجنى عليه بالسكين المضبوطة (وهى السكين التى كان الضابط قد أحضرها). انتهت القضية بذلك من وجهة نظر الضابط وذهب لينام وهو قرير العين، ولم يكن يتصور لجهله أن مفاجأة خطيرة سوف تحدث فتقلب الأمور على عقبيها، وتكشف حقيقة ما أثِم. بعد أن ينتهى وكيل النيابة المحقق من التحقيق الذى يجريه فور الحادث، لابد أن يندب الطبيب الشرعى لتشريح جثة المجنى عليه وبيان سبب وفاته وما إذا كانت تتفق مع اعتراف المتهمين. ويُجرى الطبيب الشرعى التشريح فورا ثم يخطر الشرطة بنتيجته فتعرض الاخطار على وكيل النيابة، ثم يرسل الطبيب الشرعى بعد ذلك إلى النيابة ما يسمى تقرير الصفة التشريحية. فى الاشارة التى أرسلها الطبيب الشرعى، فيما لم يزد عن 24 ساعة من وقت حدوث الجريمة، أثبت فيها أن الوفاة حدثت نتيجة اطلاق عيار نارى من سلاح مششخن. والسلاح النارى إما أن يكون مصقول الماسورة تخرج منه الطلقة النارية فى خط مستقيم يتسع مساره إلى زاويتين منفرجتين بعد لحظة من الاطلاق، تتحدد بنوع السلاح، وإما أن يكون السلاح النارى مششخن الماسورة، أى أن تكون الماسورة حلزونية من الداخل فتدور فيها الطلقة بسرعة شديدة حتى تخرج منها وهى تدور على نفسها بشدة فتكون الاصابة الناجمة عنها جسيمة. وفى حالة المجنى عليه المذكور فإنها لامست سطح بطنه بسرعة شديدة فاحدثت به شقا خيلّ للضابط الجاهل أنه حدث نتيجة الطعن بسلاح أبيض (أداة حادة السلاح كالسكين أو المطواة). وكانت النتيجة أن انهارت أدلة الاتهام نتيجة التلفيق الذى قام به الضابط، وهو يظن أنه أحسن عملا. وحُفظت الدّعوى ضد مجهول، وجوزى الضابط بتأخير ترقيته ونقله من المباحث.
لتوفيق الحكيم كتاب اسمه quot; يوميات نائب فى الأرياف quot; ترجمه إلى الفرنسية فى منتصف الأربعينيات اباإيبان (وزير خارجية اسرائيل فيما بعد). وفى وقت كنا (توفيق الحكيم وشخصى) فى باريس معا، ظهرت طبعة جديدة من الكتاب. وبتلك المناسبة أجرت معنا ndash; نحن الأثنين ndash; إذاعة باريس الثقافية مقابلة تسأل فيه توفيق الحكيم عن الكتاب وموضوعه، وتسألنى عن الوضع الثقافى فى مصر باعتبارى من رجال القضاء فى جيل تال لجيل توفيق الحكيم. قال توفيق الحكيم إنه قصد من كتابه إعادة صياغة قصّة من التراث الشعبى (الفولكلور) ويبين من خلال السرد الظروف الثقافية للشعب المصرى، سطوة الشرطة، وتزوير الانتخابات، وما إلى ذلك. ولما جاء دورى فى الحديث، قلت إن الطبقة المثقفة فى مصر (الانتليجنسيا Intelligentsia) ndash; فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى ndash; القرن العشرين ndash; كانت فى مستوى الطبقة المماثلة لها فى بريطانيا أو فرنسا أو المانيا أو غيرها من البلاد المتقدمة، وكان الانفصال كبيرا بين هذه الطبقة وباقى الشعب الذى كان يرزح فى الفقر والجهل، وبعد نصف قرن من نشر كتاب الحكيم فان الطبقة المثقفة تشتتت فى الايدلوچيات أو تبددت بالوفاة أو الهجرة، أما باقي الشعب فلم تتقدم ثقافته، بل تأخرت، وما زال الوضع فيه ndash; كما جاء فى كتاب الحكيم المذكور ndash; كما كان عليه. ولما سئلت عن السبب قلت إن من أسبابه عدم اتجاه الحكومات منذ عام 1952 إلى التنمية البشرية، وهو موضوع كتبت عنه فى كتابى حصاد العقل (المنشورة طبعته الأولى 1973). وما زال كثير من الحكام وأغلب أفراد الشعب ndash; حتى المتعلمين منهم ndash; لا يدركون معنى التنمية البشرية، ويفاجأون بها حين يسمعون أو يقرأون عنها، مع أن صميم التنمية البشرية هو ترشيد وتثقيف الشعب عامة، وكل عنصر فيه، حتى يكون شعبا مثقفا فعالا منتجا، بأقل التكاليف، وبأكثر وأرفع انتاج.
وهو موضوع لابد أن أتناوله بالشرح والتأصيل والتفصيل فيما بعد، ليعرف القراء، ومنهم الحكام، كيف أن التنمية البشرية أصبحت أهم عناصر الانتاج وأول مهام الثقافة ؛ وأنها هى التى تخفف من لجوء السلطة المتزايد إلى القانون لتحل مشاكل لا تـُحل بل تتزايد، وبهذا يقتضى الأمر صدور قانون آخر وهكذا، فتصبح ثمّ غابة من القوانين يتوه فيها حتى المشرعين. وفى القرن الرابع قبل الميلاد قال أرسطو: إذا فسدت الدولة كثرت قوانينها.