فور تخرجى فى كلية الحقوق، وبعد أشهر مضت فى إستيفاء مسّوغات التعيين، والكشف الطبى، وإجراء التحريات، تم تعيينى مساعداً للنيابة العامة بمدينة الأسكندرية. وعند حلف اليمين أمام وزير العدل وبحضور النائب العام، وُجّهت إلينا نصائح مسلكية، نعمل بموجبها، ونلتزمها فى حياتنا.
من ذلك أن نعتزل الناس ما أمكن، حتى الأقارب والمعارف، خاصة من تكون له مصالح يسعى لقضائها ndash; كما هو المألوف فى بلادنا ndash; من خلال الصلات الشخصية والعلاقات العامة، ولو كان فيما يفعل مخالفاً للقانون مقترفاً لاثم.
وألا نتناول طعاماً فى أماكن الادارة، وبيوت العمد. وعلى من يعمل فى الأرياف أن يعد حقيبة من الخيزران يضع فيها ما يقضى به على الجوع، إن طال مجلس التحقيق، أو أن يظل على خلو بطنه إلا من الماء حتى يترك المكان ويعود إلى داره.
وألا يتعامل بالنسيئة اطلاقاً، بل عليه أن يدفع ثمن ما يأخذ فوراً، فإن كان الشىء فوق طاقته المالية فليعزف عن شرائه حتى يقتدر.
عندما تسلمت العمل فى الأسكندرية، كان لابد أن التقى برئيس نيابة الأسكندرية، فاستقبلنى وزميلى الذى كان قد عُين معى إستقبالا حسنا، وكان يقدمنا لمن يدخل إليه من وكلاء النيابه على أننا الزملاء الجدد. وهكذا من أول لحظة طالت القامة، ولم نشعر بتدرج رياسى، أو بتسلط إدارى مع الأيام، فتعلمنا مسائل عدة أهمها مسائل أربع:
أzwnj;-أن يعتاد وكيل النيابة المحقق على أن يكون رئيساً لمجلس التحقيق، بهيبة العدالة ورهبة الحق، لا بالادعاء المرذول أو الانتفاخ الكاذب. فيكون كل من فى مجلس التحقيق من رجال الشرطة والمحامين فى وضع يلحظون فيه ذلك ويتبعونه فى تصرفاتهم.
بzwnj;-أن يكون وكيل النيابة محايداً فى التحقيق، لا إلى هذا الجانب ولا إلى ذلك. فالتحقيق غير جمع الادلة. تـُجمع الأدلة بواسطة رجال الشرطة، أما التحقيق فهو يمحصّها، تقوية أو تفنيداً، لكن التحقيق لا يكون أبداً لجمع الأدلة ضد المتهم، حتى لا ينحرف وكيل النيابة المحقق إلى ما يكون أصلاً من عمل ضباط الشرطة.
ج- أن يكون عفاً مهذباً، فى جميع تصرفاته، وفيما يصدر عنه من أسئلة، وخاصة فى قضايا الآداب ( هتك العرض أو الدعارة وما شابه ) فتكون أسئلته عامة ويترك بيان التفاصيل للمجنى عليه، لكنه يوجهه ولا ينطق أو يكتب كلمة نابية.
د- أن وكيل النيابة عضو من أعضاء هيئة ضخمة هى النيابة العامة، التى تنوب عن المجتمع فى التحقيق ومباشرة الدعاوى الجنائية، ومن ثم فإنه حين يحقق أو يحرر قرار الإتهام يصدّره بكلمة ( نحن ) ثم يكتب اسمه، وهذا الجمع فى التعبير لا يقصد تضخيم ذاته، بل يرمى إلى التأكيد على أنه يتصرف باسم جماعة أو هيئة.
مرت الأيام حتى بلغت السن اللازمة للتعيين فى القضاء، فعـُينت قاضياً. ومن القضاء تعلمت أشياء كثيرة، مهمة للغاية، أبرزها ما يلى:
أولاً: أن القاضى رئيس الجلسة التى تنعقد فى علنية، إلا ما يقتضى القانون أو ترى المحكمة أن تنظره فى جلسة غير علنية ( سرية ) لدواعى النظام العام أو لحسن الآداب ( مثل قضايا هتك العرض والدعارة وما شابه ).
ورياسة القاضى للجلسات رياسة تكليف، بينما رياسة وكيل النيابة لمجلس التحقيق هى رياسة تشريف. يعنى ذلك أن وكيل النيابة المحقق يرأس جلسة التحقيق بحكم الواقع De Facto ، لكنه يستطيع التدخين أو شرب القهوة أو الشاى، أو يسمح لغيره بذلك. كما أنه يستطيع المحادثة تليفونياً لضرورات العمل، كأن يتصل برئيس النيابة، أو برجل الشرطة أو بالطبيب الشرعى، وهكذا.
أما القاضى فرياسته للجلسة هى رياسة تكليف De Jure ، ذلك أن القانون ينص على أن تكون إدارة الجلسة وضبطها منوطة بالرئيس، وهو القاضى وحده، أو رئيس المحكمة إن كانت دائرة ثلاثية أو دائرة خماسية.
والقاضى لا يدخل قاعة الجلسة إلا بعد أن يطفىء المدخنون سجائرهم وينهى من يشرب قهوة أو ماء غازياً أو عادياً شربه. وعندما يصيح الحاجب قائلاً: محكمة، يقف كل من فى الجلسة، مهما كان وضعه أو عمره، إحتراماً للعدالة، ولا يجلسون إلا بعد أن يجلس القاضى أو تجلس المحكمة، ثلاثية التكوين كانت أم خماسية.
والقاضى يتصرف كما لو كان فى معبد، فلا لغو ولا صياح، ولا طعام ولا شراب، ولا مضغ ولا تدخين، له أو لغيره. كما أنه لا بد أن يضع فى تقديره أنه كمن يجلس فى غرفة من زجاج، فالجميع يراقـب كل حركة له أو لفتة، ويؤول كل كلمة له أو سؤال، وقد يكون التأويل صحيحاً أو مخطئاً، ولكنه لا ينبغى أن يدع للتأويل أو التفسير المخطىء سبباً وجيهاً.
والقاضى فى الجلسة، لا ينطق باسمه أبداً، ولا يتكلم بضمير المخاطب ( أنا، لكنه يقول دائماً: المحكمة رأت كذا، المحكمة قررت كذا، المحكمة سألت المتهم، حكمت المحكمة بكذا ). وهكذا دواليك،فالذى يتصرف ويقرر ويقدّر ويحكم إنما هى المحكمة وليس شخص القاضى.
ثانياً: ويتأدى من ذلك أن يترسخ فى مفهوم الحضور فى الجلسة، على مدى الأيام، أن القاضى ليس شخصاً لكنه هيئة. وهو بمقامه كرئيس للجلسة، أرفع من أى مقام، وآسمى من أى رتبة. فهو لا يُحيّى ولا يُحّيا، ولو دخل عليه والده أو رئيس الدولة أو وزير فى الوزارة، فهو لا يقوم له ولا يحييه ولا يرد تحيته، لان مقام القضاء أعلى من أى مقام.
ثالثاً: ومقام المحكمة ( غير الشخصانية ) أعلى من أى خصومة، أو انحياز، أو رغبة فلابد أن يمتلىء يقين الناس دوْماً بعدالته ونزاهته وحسن تقديره، ثم يتسامع الناس بذلك، فتكون سمعته سبباً فى إطمئنان الخصوم له، خاصة وأنهم لا يقرأون الأسباب التى يكتبها فى كل حكم.
وإذا ما وقعت جريمة فى الجلسة، ولو كانت اهانة المحكمة بالفـْعل أو القول أو الإشارة، فإن القاضى يوجـه تهمة إهانة هيئة المحكمة إلى المتهم ويسمع دفاعه ثم يقضى فى الاتهام، وهو بذلك يجمع بين يديه سلطتى الاتهام والحكم. لكنه إذا ما حكم بإدانة خصْم فى قضية، فإن حكمة فى جريمة إهانة هيئة المحكمة، لا يمْـنعة ولا يحجبه عن الفصل فى الدعوى الأصلية، أى أن الحكم لا يجعله غير صالح للنظر فى الدعوى الأصلية، لأن الحكم فى جريمة إهانة هيئة المحكمة لا يجعل من القاضى خصماً لمن حكم عليه، ذلك بأن المحكمة آسمى وأرفع من أن تـُهان ، أو تأخذ الأمور على محمل شخصى، ولذلك يظل القاضى صالحاً للحكم فى الدعوى التى قضى فيها ضد أحد الخصوم، لاهانته هيئة المحكمة، لأنه كان بذلك يقيم النظام وينشر العدل ولم يكن يصدر عن ضغينة شخصية.
رابعاً: والقاضى لا يستمع ولا يتتبع ما يقوله الناس أو ما يشاع فى المجتمع عن واقعة يقضى فيها، ذلك أنه مقيد بأن يحكم على مقتضى ما فى ملف الدعوى من أوراق، أو ما يبديه الدفاع فى مرافعته، لكنه لا يمكن أن يبنى عقيدته على الشائعات المطلقة أو الأقوال السائبة، خاصة فيما يسمى بقضايا الرأى العام، التى يحكم فيها الناس بغير علم، ويدينون دون دراية ؛ ويستثنى من ذلك العلم العام بالحروب أو الكوارث أو ماشابه.
خامساً: وعلى القاضى أن يتجسد بالعدالة وهى تعصب عينيها وترفع بالميزان مضبوطاً، فلا ترى شخوص الخصوم أو مراكزهم أو وظائفهم ؛ ولا تجنح تحت ضغوط المجاملة أو تجمح لارضاء سلطة أو جماعة أو هيئة.
سادساً: يلتزم القاضى فى تصرفاته بالجلسة ومع المتهمين والشهود والمحامين، مبادىء أخلاقية ( Ethical code ) يتشبع بها حتى تصدر عنه طلقةً بغير جهد.. فهو إن دان متهمة فى قضية دعارة لا يقول لها quot; يا عاهر quot; وإن قضى على مذنب فى جريمة قتل لا يقول له quot;يا قاتل quot;.. وهكذا، حتى لا يرتكب جنحة سب فى حق متهمين أو جناةً. كذلك فإنه حين يكتب الأسباب ( الحيثيات ) لا يقول فيها مثلاً إن الجانى قاتل سافل ومجرم خطير ولا يقول إن المتهمة عاهر داعر.... وهكذا، إنما يكتفى بأن يكتب أنه قد ثبت للمحكمة أن المتهم ارتكب الجريمة المنصوص عليها فى المواد كذا من قانون العقوبات، بما يقتضى توقيع عقوبتها عليه.
سابعاً: والقاضى لا يبرم أمراً أو يصدر قراراً أو يقضى بحكم فى أى دعوى إلا بعد أن يقرأ جميع الأوراق، ورقة ورقة، ثم يكتب للحكم، ولبعض الأوامر والقرارات أسباباً ( حيثيات ) تشرح لـَِم صدر الأمر أوْ القرار، وتبين فى الأسباب وقائع الدعوى، ودفاع الخصوم، والأسباب التى بُـنى عليها الحكم، بتفصيل واف، وإيجاز غير مخل. وفى القضايا المدنية ينطق القاضى بالحكم فى الدعوى مشفوعاً بأسبابه، أما فى المواد الجنائية ( جنايات وجنح ومخالفات ) فإنه وإن كوّن الأسباب قبل النطق بالحكم، يحررها فى مدة 30 يوماً، وإلا سقط الحكم إن لم يوقع على النسخة النهائية للحكم، بما يترتب على سقوط الحكم من نتائج خطيرة، يسأل القاضى عن بعضها ومن ثم فإنه يحيا طوال عمره ملتزماً بالمواعيد، مواعيد فتح الجلسات، ومواعيد ايداع الأسباب.. وهكذا. وهذا الالتزام يصبح جزءً من طبيعته وبعضاً من كيانه.
ثامناً: ومن المقرر فى كتابة الأسباب أن يلتزم القاضى بما يسمى فى المنطق Occamprime;s Razor أى نصل أوكام، بما يقتضيه ألا يتزيد فى الأسباب أبداً. فإن أقيمت أمامه دعوى من شخص يطالب بريع من آخر عن شغله عقاراً له، فإن الأسباب، إن لم تجد أن العقار مملوك للمدعى ndash; تقف عند ذكر ذلك ولا تتعدى كى تقول إن العقار مملوك لفلان ( وتحدد اسمه )، ذلك بأن ملكية الثالث للعقار لم تكن هى المطروحة أمام المحكمة، ولأن هذا التقرير فيها يعتبر تزيداً فى الأسباب لا يعتد به، وفى ذلك الأمر صدرت بحوث ودراسات كثيرة.
تاسعاً: ومن المقرر فى تحرير الأسباب ألا يلتزم القاضى بتعقب كل دفاع للمتهم، وبعضها يكون كثيراً أو غير ضرورى أو خارج عن نطاق الدعوى، إنما بحسبه أن يقيم حكمه على دعائم قوية وركائز سليمة، موجودة فى الوقائع وثابتة فى الأوراق.
عاشراً: بمجرد أن يوقع القاضى الصورة الأصلية للحكم تنتهى صلته بالواقعة، فهو لا يتابعها إستئناف أو نقضاً، ولا يدافع عن حكمه إن تعرض لنقد صحيح أو جائر، لأنه لا يمكن للقاضى أن يمضى نصف عمره فى إصدار الأحكام، ثم يمضى النصف الثانى فى الدفاع عنها. إنما إذا خرج النقد والتعليق عن الحدود اللائقة جاز للقاضى أن يتخذ إجراءات قانونية لتحميه من غلو النقد.
هذه هى المبادىء والقواعد والأسباب التى تعلمتها وطبقتها وتشربتها طوال عملى القضائى منه رئيساً لنيابة وسط القاهرة ( التى هى أهم نيابة فى مصر ) ثم كمستشار ورئيس لمحاكم الجنايات ومحاكم أمن الدولة العليا. وأحكامى منشورة فى مجموعات قانونية كثيرة، وموجودة بين أيدى الناس، وقد تـُرجمت أحكام فيها إلى اللغة الإنجليزية، وقدمت لى منظمة المحامين الدولية عام 1994م جائزة بإعتبارى رجل العام، فى حكم القانون ورعاية حقوق الإنسان.
ولما بدأت الكتابة، بتأليف الكتب أولاً ثم فى النشر بالصحف بعد ذلك، كانت للكتابة مراسم وتقاليد، فلم يكن يقربها إلا من تأهل لها بالعلم والشعر والأدب، العربى والعالمى، ومن كان ndash; إلى ذلك ndash; يحترم قلمه ويحترم نفسه وغيره. وبعد ذلك، ونتيجة لما حدث على الساحة السياسية والإقتصادية والإجتماعية فى العالم العربى كله صارت الكتابة مهنة من لا مهنة له، يقوم أغلبها على اللغو والحشو، والتسويد بلا تجديد، والمدح أو القدح، فهى غالباً ما تكون بغير فهم ودون فكر، مقالات إخبارية، أى تجمع من الأخبار فى موضوع معين ما حدث فيه لتكتبه دون أن يفكر الكاتب أو يسأله قارىء، فيم كان ذلك، ولم كان، وما المقصود منه إلا ملؤ الفراغ ونشر الاسم. وأحياناً ما تكون المقالات تهكماً أو سباً أو قذفاً يتعين أن يترفع النّـشر عنه. وربما كانت تقعراً فى موضوع لم يقرأ فيه الكاتب كما ينبغى أو لا يعرف كنه الأمور، فيستفز آخر حتى يكتب له ما لا يستطيع هو، ولا استطاع، أن يصل اليه ؛ ذلك أن العلاقات، لا الكفاية، هى أساس الانتشار فى العالم العربى، وبهذا لا يهتم البعض ولا يجد وقتاً ولا مراجع يستقصى منها عناصر ما يكتب فى هذا اللغو والحشو والجهل والغباء، والسطو والإدعاء. ويجد من تكون لديه أخلاقيات القاضى ndash; مثلى ndash; نفسه وقد أعتصم بما نُـشـّىء عليه من مبادىء وما صار فى كيانه من أصول، ليكتب بعد دراسة وينشر بعد فحص ولا يرد سهما طائشاً أو يصد قولاً فارغاً.
وقديماً قال الشاعر:
انى لأفتح عينى حين أفتحها .. على كثير ولكن لا أرى أحدا
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه
التعليقات