لا شك في أنّ المشهد السياسي الإقليمي الحالي لمنطقة الشرق الأوسط ينذر بكارثة تقسيمية مرتقبة تلوح نذرها في الأفق من لبنان الى العراق، ضاربة في طريقها كل المفاهيم الوطنية مكرسّة مبدأ الدويلات الدينية الطائفية والمذهبية، وبصرف النظر عن المحاور السياسية العسكرية والتجاذبات الديبلوماسية، فإن جميع الاطراف المتنازعة لأي محور انتموا، يتحملون مسؤولية الانهيار الحاصل، ولعل أحد أهم المكونات الفكرية لقيام تلك الدويلات يكمن في إثارة الأطروحات العقائدية و استخدام الأيديولوجيات في المجال السياسي، وإن كان ذلك تحت ذريعة محاربتها في بعض الأحيان.
وبالرغم من أن معظم تيارات وحركات الإسلام السياسي وما يُعرف بالأصولية الإسلامية تعادي وتحارب ما تسميه مشاريع السيطرة والإحتلال الخارجي الأمر الذي يُكسبها تعاطف شعبي والتفاف جماهري كبير حولها،إلا أن بنيتها الأيديولوجية لا تساهم في بناء دولة علمانية وطنية جامعة للانسان، بل تساهم عمليًّا في تحويل المنطقة الى دويلات مذهبية متنافرة متناحرة تتخذ من الخطاب اللاهوتي أداة لها.
وسأتناول هنا ثلاثة اطروحات محورية شكلت النصوص التأسيسية لمعظم الجماعات والتيارات والاحزاب الإسلامية السياسية منها وغير السياسية والتي تتجاوز المئات، بالرغم من التفاوت الحاد في استراتيجية عمل كل واحدة منها إلا أنها كلها تسعى لاقامة quot;الدولة الإسلاميةquot;...
مفهوم quot; الخلافة quot; عند النبهاني
تأسس حزب التحرير على يد تقي الدين النبهاني عام 1953، وتُشكِّل فكرة quot;الخلافةquot; المحور الرئيسي فيه، حيث ان الدولة الإسلامية بنظره هي quot;خليفةquot; يطبقّ الشرع، وهي كيان سياسي تنفيذي لتطبيق أحكام الإسلام ولحمل دعوته رسالة إلى العالم بالدعوة والجهاد. وهي كما يرى الطريقة quot;الوحيدةquot; التي وضعها الإسلام لتطبيق أنظمته وأحكامه العامة في الحياة والمجتمع، وهي قِوام وجود الإسلام في الحياة، وبدونها يَغيض الإسلام كمبدأ ونظام للحياة من الوجود، ويبقى مجرد طقوس روحية، وصفاتٍ خُلقية. لذلك فهي دائمية، وليست مؤقتة، وهي دولة سياسية بشرية، وليست دولة إلهية روحية، وليس لها قَداسة، ولا لرئيسها صفة العصمة.
لذلك فقد انصبّ جهد النبهاني في كتبه على شرح أصول الخلافة ومؤسساتها كما تصورها تبعاً للنموذج الخلافة الراشدة، كما وجه جهدُه على نقض أنطمة الحكم الأخرى خصوصًا التي ظهرت بين المسلمين في كل الدول في العصر الحديث كالاشتراكية والديموقراطية والرأسمالية.... و يُعد انصار حزب التحرير أن الديموقراطية نظام كفر يحرم أخذه او تطبيقه او الدعوة إليه، فquot; الخلافةquot; عند الحزب هي نظام خاص متميّز يختلف عن جميع أنظمة الحكم الموجودة في العالم اختلافاً كليّاً، سواء في الأساس الذي تقوم عليه هذه الأنظمة، أو في الأفكار والمفاهيم والمقاييس التي تُرعى الشؤون بمقتضاها، أو في الأشكال التي تتمثل بها، أو في الدساتير والقوانين التي تطبقها.
مفهوم quot;الحاكمية quot; عند سيد قطب
برز سيد قطب كأحد أبرز مفكري quot; الإخوان المسلمين quot; في مصر أوائل الستينيات، حيث تبلورت فكرته عن الحكم من خلال أطروحة quot;الحاكمية quot; في كتابه quot;معالم في الطريقquot;، وينطلق قطب من نقطة مفادها أن quot;الإسلام هو الحضارة quot; حيث أعطى للحضارة تعريف خلاف كل التعريفات السائدة والمعروفة، ليقول أن كلّ المجتمعات الحالية القائمة هي مجتمعات غير إسلامية، لأنها لا تحكم بما أنزل الله وبالتالي فهي مجتمعات quot;جاهلية quot;، وأن من يحكم بالقوانين الوضعية يكون قد تعدى على أهم خاصية إلهية هي quot;الألوهية quot; وبالتالي فهو quot; طاغوت quot;، كما أن الخضوع للأنظمة الحاكمة هو إشراك بالله إذا ناقض الرسالة الإلهية، وبناء على ذلك فلا يمكن للمسلم أن يكون مسلمًا وهو يتبع منهج غير إسلامي في حياته، فالمنهج هو الدين، ولمواجهة ذلك يطرح قطب فكرة قيام quot;مجتمع إسلاميquot; يتخذ الإسلام شريعة له ولا تكون له شريعة سواه، تعمل على جلاء quot;الجاهليةquot; وتقويضها، وتكون طليعة تستمد معالم طريقها من القرآن الكريم في توجهاته وفي مفهومه تمامًا كالجيل الإسلامي الأول على حد تعبيره، فقد استمد قطب خطابه السياسي من الواقع وحوله إلى نظام فكري مطلق.
مفهوم quot; ولاية الفقيه quot; عند الخميني
عمل الخميني ما بين عامي 1965 و1975 إلى ترجمة أفكاره التي ظهرت في كتابه quot; الحكومة الإسلامية quot; عام 1971الذي طرح فيه آلية الحكم الإسلامي البديل لحكم الشاه، وقد تركزت أفكاره حول مسألة quot;ولاية الفقيه في عصر الغيبةquot; وفي عام 1978 غادر إلى باريس حيث أصبح رمزًا و زعيمًا للثورة التي قادها من هناك حتى سقوط الشاه في يناير 1979 واستلام رجال الثورة مقاليد الحكم.
وتُعرّف ولاية الفقيه على أنها حاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام المعصوم المنتظر في قيادة الأمة وإقامة حكم اللّه على الأرض.
يقول الخميني في كتابه:quot; لكي نتفهم ولاية الحاكم الإسلامي، في مفهومها الواقعي، لا بد من معرفة أن الإسلام لم يكن مجرد وظائف عبادية، تقرر مسؤولية الفرد تجاه خالقه فحسب، بل أن الإسلام جاء لتركيز أسس ومقومات حكومة عادلة واسعة النطاق شاملة quot;.
ويتركز مفهوم ولاية الفقيه حول نقطتين quot;قيادة الأمةquot; وquot;إقامة حكم اللّهquot; لإقامة المؤسسات التنفيذية لتطبيق الأحكام كما فعل الرسول و الأئمة من بعده، وان يكون الإسلام حركة سياسية في مواجهة الاستعمار و الصهيونية، ولأن أحكام الإسلام نافذة في كل عصر فتنفيذها يتضمن استمرارية التنفيذ في الزمان حتى في غيبة الإمام حتى ظهور المهدي المنتظر، معتبرا أن الإسلام جاء ليقيم حكومة، وأحكامه وضعت لاقامة مجتمع، ولا يمكن تنفيذ هذه الأحكام إلا بواسطة حكومة الفقهاء وهي الحكومة الشرعية لأن الفقهاء هم الأعلم بهذا الموضوع، و quot;ولاية الفقيهquot; ولاية اعتبارية خالصة ليست محددة في شخص بعينه، وهي مجموعة من الصفات يمكن أن تتوافر في كل فقيه وليس فقط في الحاكم في quot; زمن الغيبةquot;، لانه لا يمكن تعطيل الأحكام الإسلامية، وهي وظيفة عملية سياسية يقوم بها الفقيه العالم العادل.
خلاصة
وبمقارنة سريعة بين الأطروحات الثلاثة نجد أن نظرية ولاية الفقيه أخرجت المذهب الإثنا عشري والتشيع من شكله المذهبي إلى شكله السياسي حيث استطاع الخميني أن يحول دور الفقيه من فقيه عالم بأحكام الطهارة إلى فقيه مناضل عالم بأحوال المسلمين الواقعية والسياسية، لذلك فإن منهجه منهج انقلابي يركز على القمة أكثر من القاعدة فالتغيير الاجتماعي عنده يبدأ بتغيير السلطة، وكما هو معروف فانه وحّد المرجعية الدينية والسياسية في شخصه.
كما نلاحظ أن الفرق بين قطب و الخميني هو اختلاف المذهب الشيعي والمذهب السني، فقطب يرفض ولاية الفقيه، ويرفض فكرة أن يعتني بالحكومة الإسلامية مجموعة محدودة من الناس، ويعتبر أن ذلك غير مقبول في الإسلام، وان مسألة حق الحكم التي تتوقف على الشريعة هي عملية تفويض من الشعب، أما عند الخميني فهي حق الفقيه وقت الغيبة فهي سلطة تفويض من الإمام.
أما النبهاني فيختلف عن سيد قطب، لأنه يصرّ على ان تأخذ الدولة الإسلامية شكل الخلافة فقط دون تحديدها بمقاييس الدولة الحديثة، في حين يكتفي قطب بالقول بالدولة الاسلامية، كما أن حزب التحرير يرفض فكرة الدخول او المشاركة في اي نظام من الأنظمة الحالية القائمة، بما فيها المشاركة في العمليات الانتخابية والتنافس مع القوى السياسية الأخرى أو التحالف معها من أجل بلوغ الأهداف، ثم إن النبهاني لا يقول بتحقيق اطروحته بالعنف او بقوة السلاح ولو من أجل إقامة دولة الخلافة الأمر الذي سهل للحزب الاستمرارية وغض الأنظمة الطرف عنه.
إن القاسم المشترك الواضح بين الأطروحات الثلاث هو في ضرورة تغيير الأوضاع السياسية القائمة من خلال قلب نظام الحكم، وان الشريعة الاسلامية هي أساس السلطة ومدار التطبيق.
و في ظل التشرذم الحادّ والفوضى العارمة والاستحقاقات المصيرية التي ترزح تحت وطأتها المنطقة، وأمام التحديات الكبيرة التي تنذر بتحويل المنطقة الى فتات دويلات مذهبية وفي الوقت الذي أحوج ما نحتاج فيه لبناء لحمة بين الإنسان وأخيه الإنسان من أي دين كان، يبقى السؤال الكبير المطروح:من المستفيد الحقيقي اليوم من إثارة فكر الدول الدينية؟؟؟
وأخشى ما نخشاه أن تتفتت المنطقة بين مطرقة quot;ولاية الفقيهquot; وquot;الخلافة الاسلاميةquot; و سندان quot; الاحتلالات العسكرية quot; التي تتذرع بالحرب على الارهاب من جهة وتعمل على استخدام منظماته لتكريس تقسيم المقسم من جهة اخرى!
باحثة في الأنتربولوجية
[email protected]
Marwa_kreidieh.maktoobblog.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه
التعليقات