لم يكتفِ مالك شبل، مؤلف كتاب quot;الاسترقاق في أرض الإسلامquot;، بمراجعه العديدة التي احتلت قائمتها أكثر من خمسين صفحة من الكتاب، بل قام بدراسات وزيارات ميدانية ليتفهم الموضوع. نعرض لعينات منها:
1ـ تركيا
حريم السلطان عبد الحميد الثاني عند الرحيل
إلى فيينا بعد عزله ومعهن اثنان من العبيد
تاريخ القسطنطينية (اسطنبول) هو تاريخ مئات الألوف من العبيد من كافة الأنواع، لكن لا يمكن الإحاطة بموضوع الرق إلا عبر فهم نظام الحريم. كان رئيس المخصيين، وهو أيضا مخصي، في المرتبة الرابعة للدولة العثمانية مما يبين أهمية الحريم ليس فقط للإشباع الجنسي بل لاستمرارية الأسرة الحاكمة عن طريق اختيار وتربية أفضل العناصر لأعلى مهام الدولة مما يعطي أمهاتهم وزنا في الدولة. وما أكثر المؤامرات والاغتيالات التي جرت بين أحضان الجواري أو عبر طعنة خنجر أو الاختناق في الحمام.
هناك عشر درجات لغرف الحريم، منها أربعة للأطفال الذي يربون ويتعلمون كلٌ حسب مرتبته. كان الوسطاء بين الغرف المختلفة من المخصيين، وهم على نوعين: الخُرس (ممن قصت ألسنتهم) أو الناطقين ـ وهؤلاء على نوعين: البيض ممن يقفون أمام باب السلطان أو السود أمام باب النساء. خارج الحريم، تختلف مهام العبيد من الشيال إلى الشاووش والمرسال.
نظام تجنيد العبيد يقع في قلب نظام الدولة العثمانية وقد أسسه مراد الثاني (ت 1451) ويقوم على خطف صبيان (8ـ12 سنة) مسيحيين من كل أقاليم البلقان الخاضعة لسلطان العثمانيين، وأيضا من مناطق الأطراف في ألمانيا والنمسا وروسيا وبولندا. بعد جلبهم، يعطون تعليما إسلاميا ويدربون كجنود مشاه إنكشارية وأحيانا كموظفين مدنيين في الإدارة.
وحتى انتهاء الخلافة في 1924 كان العبيد (وخاصة الجواري الأفريقيات والشركسيات) يباعون علنا في الأسواق التركية.
2ـ ما بين النهرين
اشتهرت الخيزبون بنت عطا، وهي جارية من البربر (ت 789)، بعد زواجها من الخليفة العباسي المهدي (ت 785) وولدت موسى الهادي وهارون الرشيد الذين توليا الخلافة بعد كثير من المؤامرات (785ـ786 ثم 786ـ809).
تصاعدت الحاجة للعبيد أثناء الحكم العباسي بصورة معادلة هندسية. ويعود تجنيد الغلمان (صبيان بيض، غالبا أتراك وقوقازيين) لمطلع القرن التاسع، حيث تشكل منهم حرس الخليفة المعتصم (ح 833ـ842).
وفي القرن التاسع كانت العراق مسرحا لثورة الزنج (الذين استخدمهم العباسيون في الملاحات وفاقت أعدادهم مئات الآلاف) التي قمعت بالدماء في حروب دامت 14 سنة، مات فيها نصف مليون عبد. من تبقى منهم، أعطوا أراضي في جنوب العراق وأصبحوا بدورهم من تجار ومستخدمي الرقيق!
بعد معاهدة بريطانية فارسية في 1851، حُظر الاسترقاق، وكان العبيد يتقدمون إلى مكاتب فتحتها بريطانيا في أنحاء البلاد للحصول على شهادات انعتاق. لكن الجهود توقفت بعد خمس سنوات واستمر الرق حتى القرن العشرين.
اليوم، في أقاليم إيران خاصة خوزستان وبالوشستان وبوشهر (التي كانت ميناء تجارة الرقيق الرئيسي على الخليج)، تنتشر مجموعات سكانية ناطقة بالعربية من السُنّة ترجع جذورهم إلى الرقيق الأفريقي.
زواج المتعة الذي يمارس حتى الآن، تحت حماية شيوخ الدين، هو استرقاق مقنع، أو نوع من العهر المقنن من الرقيق.
3ـ شبه الجزيرة العربية
تاجر الرقيق ـ لوحة لوي دبفيدو سنة 1867
تحفر الشريعة في الصخر مبدأ عدم مساواة المسلم بغير المسلم والعربي بغير العربي. الرق إذن جزء من الحياة العملية في المنطقة وفي البلاد الأخرى التي تستلهم الشريعة (مثل السودان وموريتانيا والصومال الخ)، أو في الإمارات، التي تتخبط بين صورة فقيرة quot;للعلمانيةquot; وبين الالتزام الصارم بقواعد الشريعة العتيقة.
عندما نجح الدبلوماسيون الإنجليز والفرنسيون في انتزاع فرمان من الباب العالي يعلن نهاية الرق في الولايات العثمانية، رفض حكام وكبراء مكة والعربية الأمر تماما، خصوصا كون هذا قد تم نتيجة quot;تدخل الصليبيينquot;. وفي 1927 أجبر الإنجليز الملك بن سعود على توقيع إعلان يتعهد بوقف الاسترقاق بأسرع ما يمكن، لكن بدون فائدة إذ بقي الأمر كما هو، باستثناء عدن التي كانت محتلة من الإنجليز.
في يناير 1958 قُدِّر عدد الرقيق في السعودية بنصف مليون، أي حوالي نصف عدد السكان. وكانت تجارته منتشرة، ومسنودة من الحكام. وأخيرا ألغي الرق رسميا في 1963 بعد ضغوط عالمية، لكن في الثمانينيات أخبر العديد من المسافرين وجود الرقيق، وخاصة المخصيين الذين كانوا يقومون بمهمة فصل الرجال عن النساء بين الحجاج.
وهناك أيضا ظاهرة الخدم المنزلي المجلوبين من دول آسيا، إضافة إلى مئات الألوف من العاملين تحت ظروف لا تختلف عن ظروف الرقيق.
4 ـ مصر
فقه الاسترقاق نشأ وطبق في القاهرة. ويعود تقليد الرق إلى القرن الهجري الأول، لكن مصر الفرعونية استخدمت الرقيق في مشروعات البناء. بعد الإسلام نجح الجلابون في استمرار قوافل التجارة من السودان والنوبة والحبشة، عبر النيل إلى مراكز الفرز في مصر ثم التوزيع للاستعمال المحلي أو إعادة التصدير لسوريا والأناضول والبلقان وجمهورية فينيسيا.
في 652 (أي بعد الغزو العربي بحوالي عشر سنين)عُقدت معاهدة عدم اعتداء مع النوبة التي التزمت فيها بتوريد مئات من العبيد كل سنة في مقابل الغذاء وضمان الحدود وأمن ملوك النوبة. وقد زاد النشاط الاسترقاقي في القرنين الثامن والتاسع لزيادة الحاجة التوسعية للإمبراطورية الإسلامية وخاصة تحت جوهر، الحاكم الفاطمي (ت 992)، العبد الصقلي المعتوق.
إضافة للعبيد السود، كان هناك السلاف (مسيحيون الأصل)، أسرى حرب أو مخطوفين، الذين أجبروا على التحول للإسلام وتلقوا تربية عسكريا ليشكلوا عصب الجيش ثم الإدارة وقاموا بدور حيوي في تكوين البحرية للفاطميين.
عبر تاريخ الإسلام اعتمدت الخلافة الإسلامية لقرون على جنود أجانب شكلوا quot;ميليشياتquot; مجلوبين من كافة أنحاء أوروبا، خاصة القوقاز وكردستان وحول بحر قزوين وروسيا وبلغاريا وبولندا والبلقان. وفي مصر كان جيش ابن طولون (ت 884) أساسا من الرقيق الأتراك والسود. في عصر صلاح الدين الأيوبي وما بعده تم الاعتماد على العبيد (سماهم المماليك) المجلوبين من آسيا الوسطى. بعدها حكم المماليك مصر مباشرة (1250ـ1517) في نموذج فريد ـ باستثناء سلاطين دلهي، وقد أصبح المماليك بدورهم تجارا ومستخدمي عبيد؛ بل كان العديد من تجارهم يأخذون مرتباتهم من بيت المال. وقد استمر تأثيرهم حتى قام محمد علي بمذبحته في 1811 للقضاء على هيكل وسلطة حكمهم.
أصبحت مصر قطبا راسخا للاسترقاق، وكان الفقهاء مستعدين لتبرير التجارة وإغماض العيون أمام سوء المعاملة الخارقة. وحتى 1860 كان هناك مكتب حكومي اسمه quot;مصلحة الرقيق ـ وكالة الجلابةquot; لمراقبة الصفقات وجبي المكوس. وفي 1877 صدر الأمر الخديوي بإلغاء تجارة الرقيق، لكنه كان حبرا على ورق بهدف تلويحه أمام القناصل الأوروبيين. أما الإخصاء فقد ألغي بواسطة فرمان عثماني موجه لمحمد علي في 1841، ولكنه استمر حتى عصر الخديوي عباس.
5ـ السودان والقرن الأفريقي
حتى اليوم، مازال الخضوع للحكام المسلمين القادمين من العربية ومصر راسخا في اللاوعي الجمعي كما تدل أعمال الفولكلور والأدب الشعبي في السودان. ومازال الاسترقاق مستمرا: أقرت إحدى جمعيات حقوق الإنسان في 1998 أنها كانت تفتدي العبيد السودانيين الجنوبيين مقابل 50 دولار لكل رأس.
كان القرن الأفريقي محطة لتجارة العطارة والعبيد. وقد وثق عدد من الرحالة العرب مثل العمري ممارسات الإخصاء في الحبشة والقرن الأفريقي، حيث كان أكثر من 80% من الصبيان يموتون نتيجة للعملية، ويرسل الناجون إلى اليمن والعربية ومابين النهرين. يقول المقدسي (القرن العاشر) أن هناك نوعين من المخصيين: السلاف (يتم إعدادهم في الأندلس) والأحباش.
6ـ موريتانيا
لم يحظر الرقيق quot;رسمياquot; في البلاد إلا منذ 1981 لكن الحظر بقي حبرا على ورق، وجاء قانون يوليو 2003 الذي ظل بلا تأثير بسبب صعوبة مواجهة عادات جماعية قديمة تنظر إلى الاسترقاق باعتباره بعدا طبيعيا في العلاقات بين الناس. وأخيرا صدر في أغسطس 2007 قانون جديد يجرم الاسترقاق.
مازال البحث في أمور العبيد أمرا شديد الحساسية يتعلق بأمن الدولة، وهناك بين 100 و150 ألف ما بين العبيد والمعتوقين يعيشون في المناطق الصحراوية وحول وادي نهر السنغال، وهم ملك لخمس قبائل كبيرة في البلاد. السادة المور هم quot;مسلمون تماما واسترقاقيون تماماquot;، وهم ورثة السادة والمشايخ والأئمة والمحاربون الذين امتلكوا كل مناطق البلاد. وتقدر نسبة الموريتانيين ذوي أصول رقيق بـ 40%.
7ـ المغرب العربي
سوق الرقيق في اسطنبول ـ لوحة وليام ألان سنة 1868
توسع الإسلام لم يكن ليعرف هذه الدرجة بدون مساهمة جماعات خادمة بصورة واسعة: (quot;مأجورون في سبيل اللهquot;). هناك حالات كثيرة، مثل طارق بن زياد (من البربر) الذي كان عبدا لموسى بن نصير ثم أعتقه فأصبح من quot;مواليهquot; وخرج في 711 على رأس جيش من 7000 من البربر، ليهاجم أسبانيا. وفي 969، قام بربر آخرون (القتامة) يقودهم رقيق مخصيون بمهاجمة مصر التي احتلوها لصالح الفاطميين.
كان الاسترقاق quot;تخصصاquot; مغربيا في العصور الوسطى. وكما يقول ابن حوقل: quot;أفريقية وباقي مناطق المغرب تمد الشرق بمولدات جميلات وعبيد وخصيان سود أو رومquot;.
ـ تونس: كانت القيروان، العاصمة الروحية للبلاد، معبر الرقيق. ويقال أن الكراهية بين أهل القيروان وسوسة ترجع لأن سكان سوسة الأصليين كانوا من العبيد. وأكد ابن خلدون (1332ـ1406) أن 20 ـ30 ألفا من العبيد كانوا في الحرس الملكي عند الزريديين.
في القرن 19 كان لدى حاكم تونس سوق عبيد خاص به وكان يورد للشام. ويشعر التونسيون اليوم بالفخر لأن قانونا لحظر الرق صدر في 1846؛ ولكن لا يوجد مؤرخ واحد يؤكد أن الرق قد توقف حقا في ذاك الوقت. أما تقبيل الأيدي في تونس فقد توقف بعد خطاب من القنصل الفرنسي في مايو 1836 إلى الباي.
ـ الجزائر: كانت القاعدة المطبقة بواسطة حكام (باي) الجزائر هي امتلاك واستغلال وبيع وشراء ما يقدرون عليه من العبيد الأرضيين؛ وأيضا أسرى القرصنة البحرية: وهؤلاء كان لهم حافز إضافي، إذ كانوا quot;مسيحيين من أعداء الإسلامquot;.
ولتبيان قدر القرصنة نذكر مغامرات سيرفانتيس (1547ـ1616) الكاتب الأسباني الشهير (صاحب quot;دون كيشوتquot;) الذي أُسِر وحاول الهرب أربع مرات، وأخيرا اشتراه (لتحريره) آباء رهبانيون وكتب بعدها عملين هامين حول تجربته. لكن إذا انتهت هذه القصة نهاية طيبة، بسبب شخصية صاحبها، فكم عدد الأسرى غير المعروفين الذين تُركوا لمواجهة مصيرهم في سجون رطبة، قهروا واغتصبوا وبيعوا واستغلوا؟ في 1631 وصف الإنجليزي فرانسيس نايت الجزائر، التي كانت مهلكة بالنسبة لكل المسيحيين، بأنها quot;مجزر البشريةquot;. وقد قضى سفراء ومندوبو كنيسة روما عشرات السنين في المفاوضات لشراء الأسرى، وتركوا مذكرات مفصلة بما حدث.
ذكر فانتور دي بارادي في كتاب عن الرق في الجزائر (1896) حادثة اختطاف ثلاثة مراكب نابوليتانية اقتيدت إلى الجزائر، حيث حولت الحكومة المسيحيين إلى عبيد وأطلقت سراح المسلمين. وفيما بعد افتدت حكومة نابولي ضباط المركب. وفي حوادث أخرى اشترت فرنسا 315 من عبيد المخطوفين وكذلك فعلت أسبانيا. وقد تسبب انتشار الطاعون في أحد فترات القرن 19 بموت حوالي 8000 عبد مسيحي. وكان يطلق على المسيحي الذي يصبح quot;تركياquot; (يتحول للإسلام) لقب quot;عَلَجquot; (علوج)، وعلى اليهودي لقب quot;سلاميquot;.
سياسة الدولة العثمانية في تشجيع الطموحين (للتسلق الوظيفي) على عدم التزوج أو التسري تسببت في انتشار التمتع بالأولاد. سادت تلك quot;الموضةquot; في الجزائر، ولم يبق الكثير من الصبيان المور أو اليهود ممن لم يكونوا ضحايا هذه البشاعة.
استغلت فرنسا وجود القراصنة واللصوص والتجار الخطرين لإرسال حملات عقابية انتهت بالاحتلال في 1830. وقد صدر قانون حظر الرق في 1848، وواجه صعوبة في التنفيذ نظرا لتجذر العادة اجتماعيا.
ـ المغرب: يؤكد الأوروبيون دائما على دماثة الشعب ورقي النخبة، لكنهم يتجاهلون تماما الاسترقاقية التي تعود لقرون طويلة في المملكة الشريفية ولا يرون فيها سوى جانب التسلية الذي يذكرهم بألف ليلة وليلة، ولا يسأل أحدٌ هؤلاء عن كيفية معاملة للخدم والعبيد والمخصيين والجواري والمرضعات.
ذكر ابن حوقل (ت 977) وجود تجار من الكوفة وبغداد والبصرة في مدن المغرب التي تقع على طريق تجارة الرقيق من السودان. وفي بداية القرن 16 كتب الرحالة جان ليون الأفريقي أن خدم الملك معظمهم من الجواري السود، وهناك أيضا جواري مسيحيات، أسبان أو برتغال؛ كلهن تحت حماية خصيان عبيد سود.
في عصر السلطان العلوي مولاي اسماعيل (ح 1672ـ1727) تم تشكيل فيلق من العبيد السود زاد أحيانا عن 150 ألف رجل، كانوا يجندون من كافة المناطق الخاضعة للسلطان، حتى نهر السنغال والنيجر والسودان الغربي (جزء من مالي الحالية).
في 1789 قدر ويليام لامبريير، طبيب البلاط، أن هناك في المتوسط 4000 عبد يُجلبون لمراكش كل سنة. وكان للسلطان حق اختيار أفضل البضاعة وتحديد الثمن الذي يدفعه للتاجر، الذي قد يفقد رخصته إذا لم يعجبه الثمن.
خلال القرن 19 كان هناك سوق للعبيد في كل المدن الرئيسية، وأهمها في مراكش حيث يباع العبيد، المستجلبون من السودان الغربي وقلب أفريقيا، عادة يومي الثلاثاء والخميس ـ بعد صلاة الفجر.
في خطاب من الوزير المفوض الإنجليزي إلى وزير الخارجية المغربي ذكر له أمر انتشار امتلاك وتجارة الرقيق، وطلب منه quot;إبلاغ السلطان بأنه، ساعده الله هو ووزراؤه، عليهم بذل جهدهم (..) لأن بقاء الرق في بلد قريب من أوروبا مثل مراكش يسبب أسى شديدا وتعليقات غاضبة في الصحافة البريطانيةquot;، وذكّره بما يشاهده الأجانب في أسواق طنجة مثلا quot;حيث يباع العبيد بين صيحات التجار المتنافسين، ويحدث أن تباع الأم لمشتر وابنها لآخر مما يسبب نحيبا لا يحتمل من الأم التي تفصل عن طفلهاquot;.
وفي 1929 كتب جيروم ثارو أن أكثر ما يصدم أعين الأجنبي في بيوت فاس هو انتشار العبيد. ومازالت المملكة الشريفية تستعمل بكثرة الخدم المنزلي يقدر عددهم بما يزيد عن المليون، وإن بدأت في 2007 حملة توعية ضد ذلك.
8ـ ليبيا
كانت طرابلس مفترق طرقٍ للاسترقاق (من تشاد والنيجر) وكانت تقدم الحماية للتجار والمهربين. وكان نصف الصادرات يتجه نحو أسطنبول، وتنافس مصر على المركز الأول. وقد صلت السمعة السيئة لحد أن وزير الدولة العثمانية، مصطفى رشيد باشا، كتب لحاكم طرابلس في 28 نوفمبر 1849 يقول quot;..إن كانت شريعتنا الغراء تسمح بالرق، لكنها تتطلب معاملة الرقيق بأبوية (..) ومن يخالفون الشرع سيعاقبهم اللهquot;.
9ـ الأندلس
أسبانيا المسلمة وعاصمتها قرطبة، حيث ولد ابن ميمونة وابن رشد، هل يمكن أن تكون استرقاقية؟ يبدو ذلك غريبا، لكن برغم الصمت المريب للمؤرخين فإن ماضي قرطبة تأكد الآن؛ بل إن أسبانيا المسلمة كانت من أصول تجارة العبيد في أوروبا.
الحكام الأمويون ( 756ـ1031) استخدموا العبيد الصقالبة (البيض) بدءا من أوائل القرن التاسع. ولا يتخيل أحد اليوم أن جامع قرطبة الكبير وجامع أشبيلية ومدينة الزهراء وقصر الحمراء في غرناطة بنيت باستخدام واسع النطاق للعمل القسري بواسطة العبيد؛ معظمهم صقالبة وإن كان بينهم زنوج وبربر وأتراك. ذكر ابن الفقيه الحمداني (ت 903) في quot;كتاب البلدانquot; أن أسبانيا كانت تنتج، بخلاف الجلود والعطور واللبان، quot;العبيد الخصيان من الغلمان اليونانيين والفرنجة، والعبيد الأندلسيينquot;.
من ناحية أخرى نذكر أن كريستوفر كولومبوس جلب 500 هنود حمر من أمريكا لبيعهم في أشبيلية.
10ـ الهند
كان العبيد يسمون quot;حبشيquot; وشكلوا العمود الفقري لقوة السلاطين المسلمين. وكما فعل مماليك مصر، استولوا على السلطة في القرن 13 وحكموا دلهي لثلاثة قرون. وقد بنى الشاه جاهان quot;تاج محلquot; (حوالي 1648) باستخدام العبيد. الهاريجان (خارجون؟) أو المنبوذون هم عبيد اليوم.
علامات على طريق إلغاء الرق:
بعد تراجع الرق وانحساره في الغرب (مثلا كان قد ألغي رسميا في فرنسا في 1315) عاد للازدياد مع اكتشاف الأمريكتين (الرق الاقتصادي). ثم بدأت في 1638 حركة إلغاء في انجلترا والولايات المتحدة وتحولت إلى quot;حرب صليبيةquot; وصلت قمتها مع نهاية القرن الثامن عشر فألغي في انجلترا (1787) وفرنسا (1794) والولايات المتحدة (1808) وشيلي (1811) والبرتغال والسويد (1813) وأسبانيا (1820) والهند (1843) والبرازيل (1850) والأرجنتين وبيرو (1853) والبرتغال (1856) الخ. ووقعت الحرب الأهلية الأمريكية (1861ـ1865) التي كان إلغاء الرق في ولايات الجنوب أحد نتائجها حيث حرر إبراهام لنكولن كل العبيد في 1862.
وقد عقد المؤتمر الدولي الأول لمناهضة الرق في برلين في 1885 ثم أعلنت quot;عصبة الأممquot; (التي سبقت الأمم المتحدة) التحريم التام لرق في معاهدة 1926.
quot;في العالم الإسلامي، من بروناي واليمن والساحل الأفريقي إلى المغرب وليبيا وجنوب تونس والسودان والعربية وجيبوتي: لا يوجد مكان وصل إليه الإسلام ولم تمارس فيه تجارة الرقيق. الملايين من البشر اقتلعوا من أراضيهم وتبادلتهم الأيدي وعملوا في القصور والمحاجر والمزارع تحت سياط سادتهمquot;.
وقد بدأ المصلحان محمد عبده (1849ـ1905) ومحمد رشيد رضا (1865ـ1935) في إدانة تجارة الرقيق، واعتبرا أن الاسترقاق المسموح به فقط هو الناتج عن الحرب (الجهاد) حيث يمكن لأسرى الحرب أن يحصلوا بعد تحولهم للإسلام على نوع من الحماية من سادتهم الجدد (بحسب الآية 4ـ24). لكن حتى العلماء الذين قبلوا هذا المبدأ قالوا باستحالة عتق العدد الكبير من الرقيق مرة واحدة لصعوبة عثورهم على مسكن وعمل. من ناحيته، حظر ميرزا على محمد (1820ـ1850 الإيراني مؤسس البابية) الرق تماما.
وقد صدرت قرارات إلغاء الرق (لم تكن سوى حبرا على ورق في البداية وتكررت أكثر من مرة في معظم البلدان) في العالم الإسلامي: في تونس (1846) وإيران (1851 إثر تدخل الجيش البريطاني) ومصر (1877) والمغرب (1922) وأفغانستان (1923) والعراق (1925) والكويت (1952) واليمن (1962) والسعودية (1963) وباكستان (1992) والنيجر (2003).....
استنتاج ختامي
إذا صدقنا الخطاب الرسمي، فالمشكلة غير موجودة إطلاقا الآن؛ لكن هناك الكثير من الرقيق الفعلي (مثلا في السودان وموريتانيا)، والرقيق المغطى: أي خدم ومحظيات، ورقيق اقتصادي كما هو الحال في بلاد الخليج. وربما مازالت الأماكن المقدسة للإسلام يحرسها الأخصاء. في الهند الإسلامية مازالت وضعية المنبوذين مثيرة للقلق وأيضا العمل الإجباري للأطفال في بنجلادش والهند وباكستان. وفي المغرب مازالت المشكلة مستمرة اليوم على شكل الخدم المنزلي.
في إيران هناك زواج المتعة ـ وهو ما يجب إدانته بدون تحفظ كاسترقاق مقنع، أو نوع من العهر المقنن. بل إن هذه العادة الشيعية ( التي يقال أن جذورها ترجع إلى الحسن ـ الذي تولى الخلافة بعد علي لستة أشهر قبل أن يجبره معاوية على التنازل، ومات بعد سنوات في المدينة مسموما ـ والذي كان يطلق عليه لقب quot;المُطلِّقquot; لأنه تزوج ثم طلق حوالي 130 زوجة) بدأت في الانتشار منذ سنوات في بلاد سنية مثل الجزائر بتواطؤ العلماء الرجعيين الذين يبررون أيضا الختان والزواج القسري وتعدد الزوجات والرجم.
وبالإضافة إلى الممارسات الاسترقاقية، هناك العقلية الاستعبادية السائدة في كثير من البلدان، مثل انتظار تقبيل الأيادي وخضوع الملايين للأثرياء الذين يستغلون أوضاعهم.
quot;وإذا كان الرق قد تراجع فليس بسبب أريحية استرقاقيين توقفوا من تلقاء أنفسهم عن الممارسة. فحقيقة الأمر (إضافة للضغوط الخارجية) أن المصادر قد جفت، وغزوات الأمس قد استبدلت بحروب ذات شكل مختلف، ولم يعد في إمكان المسلمين إخضاع واستعباد أتباع الديانات الأخرى..quot; (ص 287)
العديد من استرقاقيي العرب والمسلمين مازالوا يستندون إلى فهمهم للقرآن ليحيطوا أنفسهم بالخدم والمحظيات. هذه quot;المرونة الأخلاقيةquot; التي استمرت على مر التاريخ يمكن شرحها، بدون تبريرها، بعدد من العوامل؛ أهمها أن الاسترقاق كان منتشرا قبل الإسلام واستمر بعد مجيئه؛ وبما أن التجارة حققت فائضا كبيرا في القيمة، تقبله العقل التجاري العربي كأمر طبيعي؛ وطالما عمل النظام بصورة طيبة، خصوصا في فترات التوسع الحربي للإسلام، أغلق أصحاب العقول المستنيرة عيونهم سواء لكونهم أقلية أو لم يشعروا بقدر كاف من الاهتمام للإصلاح؛ وأخيرا فإن النخب العربية فشلت في فرض رؤاها الثقافية ولم تظهر سبل التفكير النقدي التي كان بإمكانها أن تضع موضع التساؤل الشريعة المهيمنة، التي هي أحد معوقات ازدهار حقوق إنسان حديثة للأفراد.
***
وبهذه الملاحظة الذكية الأخيرة يضع المؤلف يده على أحد أركان معضلة العالم العربي والإسلامي الحالية، وهو ما يشكل الهدف الأساسي لعرضنا لهذا الكتاب (الذي نوصي أن تقوم إحدى دور النشر بترجمته ترجمة أمينة للعربية)، الذي لم يكن من باب quot;التاريخ للتاريخquot; أو كشف الفضائح وإثارة الغضب...
فبغض النظر عن كون إنهاء الرق في الدول العربية والإسلامية قد جرى بصورة جزئية أو كاملة، فالملاحظ أن ذلك لم يحدث ـ على أي حال ـ إلا عندما كانت هذه الدول إما محتلة من دول غربية (استعمارية) أو كانت في أوضاع وظروف تقبل فيها quot;الضغوط الخارجيةquot;.
لكن اليوم، إذ تعيش الدول العربية والإسلامية في ظل quot;صحوةquot; رجعية عاتية، نجدها quot;تناضلquot; بكافة قواها في سبيل رفض تطبيق مواثيق حقوق الإنسان، والمبادئ الأولية للمساواة والعدالة، بل رفض مبدأ عالمية حقوق الإنسان في حد ذاته؛ متخذة لذلك كافة الذرائع، التي تستند بطريقة أو بأخرى إلى كونها quot;تتعارض مع الشريعةquot; و quot;تتنافى مع خصوصيتنا الثقافيةquot;. بل إنها لا تتوانى عن التحالف معا لتحدى آليات حقوق الإنسان العالمية أو اختراع quot;معايير جديدةquot; لحقوق الإنسان تتناقض مع تلك التي اعتمدها العالم، أو لممارسة الضغوط (التي تصل إلى حد البلطجة) لرفض محاولات الإدانة الدولية...
من هنا كانت أهمية التعرض لتجربة وتاريخ الاسترقاق لإدراك أن العالم العربي والإسلامي لا يتعلم كثيرا من الماضي؛ ويبدو أنه مازال لا يريد، ولا يستطيع، إصلاح نفسه من تلقاء نفسه. ولذا فعلى باقي الإنسانية واجب quot;مساعدتهquot; وعدم الخضوع لابتزازه...

[email protected]