فى شهر مايو 1977 كنت رئيساً لنيابة وسط القاهرة الكلية حين اتصل بى هاتفيا مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة يستأذن فى موعد عاجل للحضور إلىّ.
عندما حضر عرض علىّ موضوعا دقيقا فاستمعت اليه وقرأت الأوراق ثم أصدرت قرارى الذى كان هو بذاته القرار الذي يرجوه، والذى حفيت قدماه فى الحصول عليه. وحكى لى تفاصيل سعيه، وكيف كان السعى يخيب فى كل مرة، حتى ظن أن لا شىء يُبرم فى مصر. كنت أعرف أن أغلب الموظفين فى مصر يتصرفون بإحساس الخوف من المساءلة، ويكتبون ndash; إن كتبوا ndash; بأيد مرتعشة نتيجة ترسخ هذا الخوف فى قرارة نفوسهم، وفى مجال اللاوعى منهم.
فى الحقل القانونى والقضائي يوجد اتجاهان، أظهرهما ما يرى أن كل شىء محظور ما لم يوجد نصّ أو أمر بالإباحة، والثاني ndash; على عكس ذلك ndash; يرى أن الأصل فى الأشياء الإباحة، وأن كل ما لا يُحظر بوضوح وصراحة يرجع إلى الأصل فيكون مباحا. ولما كنت من أنصار الإتجاه الثاني ndash; وهم قلة ndash; فقد أدركت على الفور سبب ما قال عنه مدير الجامعة الأمريكية أنه مأساة.
بعد أن صدر القرار وانشرح صدر المدير جلس يحتسى القهوة وقد انفرجت أسايره وانبسط من التوتر، فكان من حديثه أن الجامعة تنظم رحلة إلى الشرق الأقصى، لزيارة اليابان والصين وهونج كونج وتايلاند، وأنهم فى مأزق لعدم إكتمال النصاب اللازم من المشتركين وعرض علىّ ndash; إن كنت أرغب ndash; الإشتراك فى هذه الرحلة ndash; التى لا تساهم فيها الجامعة الأمريكية إلا بالتنظيم ndash; فوافقت على الفـْور.
رتـّبت أمورى، وحصلت على أجازتى السنوية مبكراً، والتحقت بمجموعة الرحلة، وكان فيها عدد وفير من أولياء أمور الطلبة كانوا ndash; كما فهمت فيها بعد ndash; يتوقون إلى شراء اللآلىء والمجموهرات بثمن رخيص، ثم يبيعونها فى مصر بثمن أغلى فيحققون من ذلك ربحاً طائلا، يغطّى مصاريف الرحلة ويزيد. أما أنا فكنت تواقا إلى فضّ غموض مناطق الشرق الأقصى، وفهم ثقافته. ولم أجد فرصة أحسن من الذهاب إلى تلك المناطق مع مجموعة تنظمها وتشرف عليها الجامعة الأمريكية فى مصر، فقد كان من المستحيل أن أفعل ذلك بنفسى وبمفردى.
بدأت الرحلة باليابان، وكانت طويلة جداً، إذ اقتضت 22 ساعة للوصول. وإذ كان السفر تجاه المشرق فقد استطال ليلتين، ووصلنا إلى اليابان بعد منتصف الليلة الثانية. ونمت نوما عميقا لم أستيقظ منه إلا على طرق خدمة الغرف ( Room Service ) على الباب لاحضار الإفطار كما طلبت، فى الساعة التاسعة بتوقيت اليابان. بعد الافطار تفحصت الغرفة، فوجتها صغيرة المساحة لكن تتوفر فيها كل أسباب الراحة، فجمعت فى ذلك بين حسن استغلال كل من المساحة والتقنية. بعد الافطار نزلت إلى ردهة الفندق وطلبت الاشتراك فى رؤية نهارية ورؤية ليلية للمدينة، ( Sight Seeing ). بعد حوالى نصف ساعة حضر quot; ميكروباص quot; اصطحبنى قائده إلى حافلة كبيرة ( أوتوبيس )، حيث قام برحلة الرؤية النهارية فى مدينة طوكيو لمدة ثلاث ساعات أحسست خلالها أنى فى كوكب آخر، كما لاحظت مدى الدقة والتنظيم والنظافة والشعور بالمسئولية والإنسانية لدى جميع اليابانيين.
فيما بين فترتى الجولة الصباحية والجولة المسائية تجوّلت وحدى حول الفندق، متبعا ارشادات خارطة حصلت عليها من هذا الفندق. وخلال ذلك دخلت فندق هيلتون طوكيو، فوجدت أن كل من فى الردهة يابانيون من متوسطى وكبار السن. اتجهت إلى ممر توجد فيه محال (اسمه بالانجليزية Arcade) لأتفرج على البضائع المعروضة فى النوافذ الزجاجية (ڤاترينات) فأعرف منها نوع المنتوجات وأسلوب العرض، وقد وجدته يتسم بالأناقة والرقي. وقفت أمام محل يبيع ورود مصنعة من مواد مستخرجة من البحر، نصف ثمينة (Semi Precious) وأعجبتنى الفكرة جيداً، فدخلت المحل حيث كانت توجد سيدة شابة، تعرف الانجليزية، فسألتها عن الأصص وما فيها، وكانت تشرح لى كل شىء بصبر يحسده عليها العربى والمصرى الذى يجد الباعة دائما نافذى الصبر. اخترت ثلاث أصص (صغيرة الحجم طبعاً) منها إثنان من حجر الكوارتز فى أصص من الصينى (البورسلين) الأزرق، ثم واحدة تختلف عنهما، لأكونّ ثالوثاً من هذه الأصص الأنيقة والورد الثمين، ثم سألتها عن الثمن فقالت سعراً وجدته مرتفعاً جداً، خاصة بالنسبة إلى مصرى يحمل عدداً محدوداً من الدولارات، بحكم قوانين البلد آنذاك. فقلت لها سأمر غداً، وتركت لنفسى فرصة للتفكير والتدبير. كان لى معرفة بالسفير المصرى فى طوكيو فخاطبته هاتفيا فى اليوم التالي، فسرّه وجودى فى اليابان وقال إنه سيرسل إلىّ على الفور المستشار التجاري بالسفارة لمصاحبتى، حتى ألتقي بالسفير فى المساء ببيته لتناول طعام العشاء معه. أثناء تجوالى مع المستشار التجاري ساقنا التجوال إلى فندق هيلتون، فحكيت له قصة الأمس بصدد أصص الورد وطلبت منه التوجه إلى نفس المحل ليبدى لى الرأى فى البضاعة وفى السعر. عندما دخلنا المحل لم أجد الفتاة التى كانت توجد فى اليوم السابق، ووجدت رجلاً فى منتصف العمر بدلا منها. قلت له إنى حضرت بالأمس وشاهدت أصصا ثلاثة لا أجدها اليوم. فقال الرجل وهو ينحنى: طلباتك غـُلفت، وأحضرها لى فى ثلاثة صناديق صغيرة مغلفة. انتحيت بالمستشار التجاري جانبا وقلت له إنى لم أشتر هذه الأصص، وهى غالية الثمن، ولا أعرف ما الذى تم تغليفه؟ فقال لى ndash; وكان قد عاشر اليابانيين ثلاث سنوات: الناس هنا فى اليابان أأمن من الأمانة، ولا يُغلف لك شيئاً إلا ما اتفقتم عليه. ثم قال لى: إنهم اعتبروا قولك quot; سأحضر غداً quot; يعنى الشراء، فتم التغليف حتى لا تقضى وقتا طويلا فى انتظاره. قلت له: لكن الثمن غال. قال: أما هذه فدعنى أتصرف فيها. ذهب إلى البائع وقدم له بطاقته الدبلوماسية وقال له نحن دبلوماسيون، ومن حقنا أن نحصل على تخفيض. انحنى الرجل بأدب شديد وهو يضم يديه على صدره وقال بصوت خفيض: سيدى لقد تمت الصفقة بالأمس ( Sir, Yesterday we maid a deal ) التفت إلىّ المستشار التجاري وقال لى لا مناص من أن تأخذ الأصص وتدفع الثمن. فعلت ذلك وأنا محرج جداً، وشاعر بالغبن ولدى احساس بالخوف من أن أدفع ثمناً كبيراً، ثم لا أجد ما كنت أهدف إلى شرائه.
بعد اليابان، ظللنا حوالى شهرين نقضى باقى الرحلة، كما كان البرنامج، وأنا متشوق إلى فتح العلب لأرى ما غـُلـّفت فيها. وصلنا إلى مصر فى الساعة الواحدة صباحاً، وكنت فى بيتى الساعة الثانية صباحاً، وكان أول ما فعلته بعد فتح الحقيبة، هو فض الأغلفة لأرى الأصص، وراعنى أنها كانت نفس الأصص (ولا تزال عندى) ومغلفة بأصول ودقة وحولها وسائد من القطن. وعندما ذكرت ذلك لأحد كبار تجار خان الخليلى، قال لى إنه لا يوجد فى الخان تاجر إلا ويُرسل إلى الأجنبى الذى اشترى منه بضاعة، صنفاً آخر غير ما اشتراه، أقل قيمة وأسوأ جودة.
من هذه الواقعة، ومن غيرها، ترسب فى صدرى احترام شديد للثقافة اليابانية، ولليابانيين. فهم على دقة ونظام وأمانة، يعملون ndash; كما لاحظنا جميعاً ndash; كأسرة واحدة، يحبون وطنهم حبا يصل بالبعض إلى ضرب من التقديس. أما ما كان يخالجنى من شعور سلبى تجاههم لما صدر عن اليابان فى الحرب العالمية الثانية، وفى الفترة التى سبقتها، من تصرفات وحشية بربرية إزاء شعوب جنوب شرق آسيا، ونحو غيرهم ممن صار أسيرا لديهم، فقد دفعوا فيه ثمنا غاليا، كفرّ عن سيئاتهم، وحولهم إلى شعب آخر، منتج ومفيد، بحيث صارت اليابان ثانى دولة فى الاقتصاد العالمى، ولا يكاد يخلو بيت فى أنحاء العالم من قطعة من انتاج اليابان.
بمناسبة الحرب العالمية الثانية، فقد أدى عدوان اليابان على الولايات المتحدة، إلى أن شكّت هذه ومواطنيها فى المواطنين من أصل يابانى. وكانوا يقيمون غالبا فى ولاية كاليفورنيا غرباً باعتبارها الأقرب إلى اليابان.وقد عملت الحكومة الأمريكية إلى تهجيرهم إلى مناطق فى داخل الولايات المتحدة أو فى كندا، فلم يشكوا أو يصرخوا متهمين حكومتهم بالاضطهاد والعنصرية، لأنهم تفهموا الموقف جيداً فقبلوا الوضع فى تسليم وسكوت ؛ وكان تصرفهم أفضل من أىّ قول.
كان ممن هجّروا إلى كندا أسرة عائلها رجل كبير السن، كان صاحب مصنع، ولم يعد لديه دخل يعول به أسرته، فعملت إبنته الكبرى فى أحد محال التحف كبائعة. وأنست إليها صاحبة المحل فعهدت اليها برعاية إبنتها الصغيرة فى فترة أعياد الميلاد. وقامت اليابانية بعملها بأداء ممتاز، سواء فى المحل أو فى رعاية الإبنة. وفى نهاية الفترة قدمت لها صاحبة العمل مظروفاً به نقود كمكافأة لها، فرفضت اليابانية قبول أى مكافأة وقالت لربة العمل: أنا أريد كرامة لا صدقة.
I am Looking For dignity, not charity
من هذه القصة الواقعية تبين أخلاقيات اليابانيين واليابانيات فهم يهتمون بالكرامة وإحترام النفس أكثر مما يبحثون عن النقود أو النفوذ، بينما توجد شعوب تبحث عن المال وتقتنيه بنهم وجشع ولو على حساب كرامتهم واحترامهم لأنفسهم.
شاهدت فلما (فيلما) عن اليابان فى نهاية عصر الساموراى، وهم عسكر كانوا يحكمون البلاد كإقطاعيين. فى عمل السلطة والشعب على التخلص منهم، ثارت مشكلة سأل فيها الامبراطور وزيره الأكبر فقال له هذا أنت الأمبراطور الذى يقدره ويقدسه الشعب، ولو اتخذت قرارا لأطاعك الشعب طاعة عمياء. رد عليه الامبراطور قائلا: إن الشعب يحترم ويطيع قرارى إذا كان قرارا صائبا. فهذا هو امبراطور اليابان يقرن طاعة الشعب لقراره بصحة صدوره وسلامة اجراءاته، وذلك رغم أنه فى نظر شعبه ابن الشمس، والامبراطور المطاع فى كل شىء.
فى ذات الفلم (الفيلم) كان الوزير الأكبر يشرح لكبار معاونيه ومساعديه وضع اليابان فى مواجهة الغرب، فلم يدعهم إلى التظاهر أو الإضراب أو إطلاق الهتافات وترديد الأغانى وإنتشار الاهازيج، لكنه قال لهم (إذا ما أردنا أن نلحق بالغرب فعلينا أن نتعلم مثلهم. وأن نعمل كما يعملون وأن نجعل بلدنا كفوا لبلادهم). وهذا هو الطريق السليم والصحيح لأى مواجهة وأى إصلاح وأى تقدم، وهو يتحصل فى اتباع قيم ومبادىء صحيحة، واحترام الفرد لكرامته بالعمل لا بالادّعاء، وأن تجرى عملية تنمية شاملة للإنسان فى كل موقع حاكما أو محكوما. ومع كل ذلك أن يشعر الحاكم أن حكمه لن يكون مقبولا لدى الشعب إلا إذا أدرك (الشعب) بأنه لم يفعل ولن يفعل إلا الصواب، والصواب وحده.
Email:
[email protected]