الديمقراطية لفظ من أصل يوناني (إغريقي) هو Demok-ratia؛ وهو باللاتينية Demecratie، وبالانجليزية Democracy. وهو لفظ من جمع لفظين يونانيين (إغريقين) هما Demos بمعنى الناس أو الشعب، Cracia بمعنى حكم أو حكومة، وبهذا يعنى اللفظ بعد جمع اللفظين معا، حكم الناس، أو حكم الشعب، أو حكومة الناس أو حكومة الشعب.
أما التنوير فهو المصدر للفظ نَّور، وهو من هذا المعنى يقصد إلى حركة فلسفية بدأت فى القرن الثامن عشر تتميز بفكرة التقدم وعدم الثقة بالتقاليد، وبالتفاؤل والإيمان بالقول (المعجم العربي الأساسي، مادة: نور). وهو باللغة الإنجليزية Enlighten، ومن معانية Inform أى يُعلم، Make awake أى يوقظ أو Raise a person's consciousness أى يرفع ضمير الإنسان (Oxford Dictionary).
واللفظ شائع فى الدين وفى الفكر الدينى، ففى القرآن (هو الذي يخرجكم من الظلمات إلى النور). وهو بهذا المعنى يكاد يوجد فى كل الشرائع، فبوذا مثلا تعنى المستنير، وما لم تكن البوذية نسبة إلى بوذا المعُلـّم فهى تعنى الإستنارة، وهكذا.
بعد ضبط المصطلحات ووضع التعريفات، تبدأ الدراسة فى تحليل معنى وتاريخ ومقصد الديموقراطية ومعنى وتاريخ ومقصد التنوير.
بدأت الديمقراطية فى أثينا (التى صارت عاصمة لبلاد اليونان) فى القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت إذ ذاك ديمقراطية مباشرة، إذ يجتمع كل المواطنين الأحرار فى ساحة بأثينا للإدلاء بأصواتهم المباشرة فى كل موضوع يتـّصل بشئون المدينة أو يتعلق بالمواطنين أو بأىّ موضوع آخر.
انتقلت الديمقراطية ndash; بمعنى حكم الشعب ndash; إلى فرنسا أولا، بعد الثورة الفرنسية. أما قبل الثورة فكان الأفراد ينتمون إلى طبقة من ثلاث هى رجال الدين والنبلاء والعامة (أى عامة الشعب). بدخول مفهوم المواطنة (بالإنجليزية Citizenship وبالفرنسية Cytoen) إلى النظام السياسي أصبح من حق المواطنين أن يختاروا نوابا عنهم، ويكون النائب بمجرد إختياره ممثلا لكل المواطنين، أى لكل الشعب.
وظلت الديمقراطية تتطور، فلم تعد مجرد الإدلاء بالأصوات لإنتخاب نوّاب كل بضع سنوات، وإنما أضيف إليها مجتمع مدنى قوىّ وحرّ ومستقل، يتكون من الصحافة الحرة ومن الإعلام المستقل ومن الأحزاب الحقة، ومن النقابات، ومن الجمعيات الأهلية، ومن المؤسسات الخاصة، مما جعل الشعب ndash; من خلال هذه القوى ndash; حاضرا فعـّالا مشاركا فى الحكم على الدوام. وظهرت فى الأفق السياسي العالمى جمعيات ومؤسسات لرقابة حكم القانون وحقوق الإنسان، فى كل دولة من دول العالم، وبهذا صار من المتعيـّن على الحكومات والحكام، وعلى كل رئيس أو مدير أو موظف إداري، قضائى أو تشريعي أو تنفيذي، أن يعمل ويتصرف وكأنه يقيم فى غرفة من زجاج، بحيث تكون الشفاقية (Transparence) هى الأساس فى كل قول أو قرار أو عمل أو تصرف، وإلا أُسدلت على كل هذه سدائل من التعتيم (Obscure)، تضرب الديمقراطية فى الصميم وتقوض كل دعائمها.
الديمقراطية، ولو فى أبسط صورة لها، وهو التصويت المباشر بعد مناقشة موضوع ما ndash; كما كان يحدث فى أثينا ndash; تقتضى أن يكون لمن يصوّت (ولو إلى حد ما) استقلال القاضى وإحاطة العالم والَمنْعة الشديدة من أى استهواء أو استغواء والإ صار التصويت عملية صورية، تؤيد الفاشية وتعضـّد الدكتاتورية، وتقوض أى حرية. ولدينا فى التاريخ مثل مهم على ذلك ndash; ففى معركة أكتيوم البحرية (31 ق.م) انهزم الأسطول المصرى بقيادة كليوباترا وأنطونيو (أو أنطونيوس)، لكن الدعايات المغرضة والأهازيج الكاذبة والطبول الجوفاء، قلبت الهزيمة نصراً (أو نكْسة Set- back بالتعبير الحديث المشهور) فسار شعب الإسكندرية وهو يهتف بالنصر وبحياة المهزومين. وقد وصف هذا الوضع ببراعة الشاعر المصرى أحمد شوقى، فى روايته الشعرية quot; مصرع كليوباترا quot;، فقال على لسان شخص يعرف الحقيقة وهو يخاطب زميله الذي يعرف الحقيقة مثله:
أنظر الشعب صديقي .. كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافاً .. بحياة قـَاتليْه
أثرّ البهتان فيه .. وانطلى الزور عليه
ياله من ببغاء .. عقله فى أذنيه
فى بريطانيا، واثر تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية كثيرة ومتشابكة ومتشعبة، بدأت بالعهد الأعظم (ماچنا كارتا Magna carta) عام 1215م، ظهر چون لوك (1632 ndash; 1704)، وخلاصة فلسفته أن الناس جميعاً سواسية وأن سعادة الفرد، هى على المدى الطويل، فى سعادة شعبه؛ ومن ثم ينبغي أن يتحلى كل فرد ببعد النظر والبصيرة التى تمكنه من معرفة ذلك. وقد اشتهر چون لوك بنظريته السياسية التى تؤكد على أن الناس جميعاً متساوين وسواسية، وأنـّه ليس لأحد أن يضر بغيره بأى وسيلة، وثمت عقد ضمنى عقده الناس جميعاً لإقامة السلطة (أو الحكومة أو الإدارة) لتعمل على الأساس الفطرى، فتكفل لكل فرد حريته، وحقه فى الحفاظ على ثمار مجهوده (الشريف). فإذا حادت السلطة عن مهمتها لم تكن الثورة عليها حقا للأفراد فحسب، بل واجبا عليهم.
تأثر بأفكار چون لوك هذه كل من فولتر (1694 ndash; 1778) وچان چاك روسو (1712 ndash; 1778) فى فرنسا، وكانت لأفاكارهما (وخاصة فكرة المساواة ومبدأ العقد الإجتماعي) أثراً كبيراً فى قيام الثورة الفرنسية. وبمقتضى ذلك تقوضت تماما فكرة الحق الألهي المقدس فى الحكم، للحكام المسيحيين. (Divine Right of the Kings).
ومن هذا التركيز على فكرة المساواة ومبدأ العقد الإجتماعي بين المواطنين والسلطة، يبدو واضحا أثر الفكر الصحيح فى تكوين المجتمعات المستنيرة، التى تعرف حقوقها وحقوق الآخرين فتلتزمها، والتى لا ترى فى السلطة قدراً لا يغيّره ولا يعدّله إلا الله. وفى القرآن الكريم عن الدور الفعّال للناس (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
من معانى لفظ التنوير، فى اللغة الإنجليزية، كما سلف، ترفيع وترقية الضمير الإنساني، وهو صلب العقائد وأساس الشرائع. فالضمير ndash; الذى تـُعبر عنه الشرائع أحياناً ndash; بلفظ القلب السليم، هو الأصل وهو الأساس فى أى إصلاح دينى أو سياسي أو إقتصادي أو فكرى. ودون ذلك لا يكون إصلاح أبداً، وإنما تكرار ممل وطلب مستحيل لحدوث إصلاح لا يمكن أن يحدث إلا إذا بدأ من القلب النقى وصدر عن الضمير السوىّ.
لقد قامت الديمقراطية فى الغرب، وفى بلاد كثيرة فى الشرقين الأدنى والأقصى، نتيجة لحدوث التنوير الفردى والجماعى واستقراره وثباته. فلا تكون ديمقراطية أبداً، دون قضاء مستقل، وصحافة حرة، وإعلام حى لا يتبع السلطة، ومجتمع مدنى قوى صلب بمؤسساته من أحزاب غير ورقية، ونقابات سليمة واعية، وشعب مستنير، لكل فرد فيه ndash; ما أمكن ndash; استقلال القاضى وإحاطة العالم والمنعة الشديدة من أى إستهواء أو إستغواء أو إستهزاء. ولو لم يتحقق التنوير قبل الديمقراطية، فإن هذه تصبح خاوية من المعنى (والحكومات والأحزاب الشيوعية الشمولية كانت تصف نفسها بالديموقراطية). ويؤدى إلى هذا، أو ينتج عنه، أن يكون العقل فى الآذان، والفهم فى اللسان، والوعىْ فى خبر كان!!

Email:
[email protected]