لفظ العقل، فى اللغة العربية، اشتـُقّ من الربط والحبس، كعقل البعير أى ربطها. لكنه صار يعنى الحجر والنهـُّى، وهو ما ضد الحمق أو عدم التمييز ؛ كما صار يفيد كذلك مفهوم التثبت فى الأمور. وقد قيل إنه سُمى عقلا لأنه يحبس (يعقل) صاحبه عن التورط فى المهالك.
بهذا المفهوم يمكن أن يقال العقل العربى أو يقال العقل الغربى، بما يشير إلى أهم العناصر التى يتشكل منها هذا العقل أو ذاك. وهو فى هذا يفيد ما يعنى العقلية أو الذهنية أو ما شابه. ومن هذا المعنى الواضح بغير لبس، الظاهر دون خلط، نشرنا كتابنا quot; حصاد العقل quot; عام 1973 وكتابنا quot; العقل فى الإسلام quot; (سلسلة اقرأ، عن دار المعارف المصرية، العدد رقم 639) ثم تكرر نشر الكتابين.
فى مجتمع عتيق، كالمجتمع العربى، تكـُون ثمّ تراثات قد تراكمت، وتقليديات قد توارثت، حتى صارت أبنية كاملة (وإن يكن بعضها على غير الأصول) يتعين على كل فرد إتباعها دون تقاعس فيها وإلتزامها بغير خروج عنها. ذلك أن هذا الإلتزام وذلك الاتـّباع يكون عاصما له من أىّ نقد اجتماعى، وأى صدمة فجائية، وأىّ نقلة لم يتهيأ لها أصلا. هذا بالإضافة إلى أن صميم كيانه وهُويته الذاتية يكونان على الدوام مرتبطان بالاحتفاظ بتلك التقاليد والاحتفال بهذه التراثات ؛ وبذل النفيس، بل والنفس (أىّ الموت) دون أى تغيير فيها أو تبديل لها، لأن التغيير والتبديل يهدد أمنه، ويقوض هويته وذاتيته.
من هنا نفذ الصّراع إلى العقل العربى، من النزاع بين التقليديات (التى يسميها البعض أصالة)، وبين التحديثيات (التى يسميها البعض حداثة). لقد تدفقت عليه منتوجات التقنية العالية (التكنولوجيا الرفيعة Hi-tec) كالمطر المنهمر أو كالسيل المندفع، وهو حائر لا يدرى كيف يستوعبها وكيف يتعامل مع التغييرات التى أحدثتها وتحدثها هذه الأجهزة، أو كيف يتفاعل مع التبديلات التى طرأت على حياته العائلية وروابطه الأسرية وعلاقاته الإجتماعية. ففى كل قرية وكل مدينة وكل فرد، اقتحمتها واقتحمته فجأة، أجهزة التقنية كالتلفاز والمذياع والمحمول (أو الجوّال)، وغسالات الملابس والصحون، وأفران الطهى والتسخين، والفيديو (مشغل الشرائط المصورة والناطقة) والريسيفر (مستقبل القنوات التلفازية البعيدة)، والمسجل (للموسيقى والأغانى)، والمصورة (الكاميرا الفورية أو بعد إعداد خاص لشريط التصوير)، هذا فضلا عن السيارة والطائرة وكل أدوات النقل، والحاسوب وكل ما يتصل به وينتج عن استعماله. وهذه الأجهزة ndash; كلها أو بعضها ndash; مما يتعين أن تستعمله سيدات البيوت (رغم ما عليه أغلبهن من أميـّة) أو يشغـّله الشخص العاطل من أى ثقافة، أو حتى الشخص العادى، الذى لا يستطيع أن يدرك ما فى جهاز واحد من إمكانات، ولا يعرف ولا يفهم ولا يدرك كيف يستعمله على الوجه الأكمل.
وبيان آثار هذه الأجهزة على العقل البشرى، أجلّ من أن تـُحصى أو تـُعد، لكنا نشير إلى آثر جهاز واحد كالتلفاز، لأن آثاره كبيرة وكثيرة وملحوظة. فقد غـّير التلفاز نظام المقاهى التى كانت تنتشر فى مصر، وفى غيرها، وكانت مجتمعات فى ذاتها، لها خصائصها وطبائعها، ذلك أنه (التلفاز) يقدم بديلا عن السمر ومجتمعات المقاهى، لكنه زاد من الاحتكاك بين أفراد الأسر، لطول وجودهم معا، مما أظهر مشكلات عدم التوافق أو جسـّم منها. هذا بالاضافة إلى أنه ساعد على إنتشار الوجبات السريعة التى تؤكل مع مشاهدة برامجه، وبذلك زال أو كاد يزول من أغلب بيوت العرب نظام اجتماع العائلة حول الموائد، بما كان فيه من حميمية وتواصل.
هذا شأن جهاز واحد، وهو التلفاز، وعن غيره حدّث ولا حرج. فقد أدى غزو الأجهزة ndash; التى يحرص الجميع على اقتنائها ndash; إلى آثار ثقافية واجتماعية بعيدة المدى، فغيرت من المجتمع العربى، وبدلـّت فى ثقافته، وصار النظر الواقعى هو ذلك الذى يبحث عن توافق بين العقل العربى وآثار الأجهزة التى ملأت وملكت العالم العربى ؛ بينما يصيح البعض ممن وقع فى أسر الأجهزة، والغزو الثقافى التى أحدثته، وهو يلتفت إلى ماض بعيد، فيزعم أن ثمت غزوا ثقافيا قد وفد علينا من الغرب. ومن هذا الوضع شاع القول عن صراع بين الأصالة والحداثة ؛ لكن الموضوع دائما ما يعالج بسطحية دون عمق أو من جانب واحد دون أن يحيط بكل الجوانب.
إن العقل العربى فى حاجة إلى تحديث واضح محدد، على الأقل، ليواكب استغزاء (أى طلب غزو) الأجهزة التى يتكالب عليها الكلّ وصارت مقياسا للوضع الإجتماعى. ولأن الموضوع كبير ومتشعب، يمكن أن تصدر بشأنه كتب ومؤلفات، فإن الدراسة ndash; لطبيعتها وحدود المساحة ndash; سوف تضع النقاط الرئيسية والأساسية ليكون فى ذلك تذكرة وجدوى ودعوى للتعميق.
(أ) توقير الكلام: فالأصل فى الطبيعة هو الصمت، وكلما طال الصمت زاد عمق القلب ودارت حركة الفكر، لكن الكلام الكثير لا يكون إلا ثرثرة أو حكاوى أو دردشة أو غيبة أو نميمة، يضعف مُكنة التفكير ويبهت ملكة التعمق داخل الذات ويقضى على الدافع الخلقى. والمجتمع الذى يوقـّر الكلام، يحترم كلمته، ولا يقول إلا صدقا أو يصمت فلا يقول شيئا. وهو لا يكذب أبداً، ولا يطلق الشائعة ولا يتسمّع للاشاعات. فإما أن يكون للقول سند أو دليل، وإما أن يطـّرحه دون أن يردده، فيدخل بهذا التردد حلبة الإشاعات، وتصبح ثقافته وعقليته مؤهلة لتخطف الفكر وتسطيح الذكر وقبول المنكر.
لقد حضرت عندما كنت طفلا - مع الكبار - بعض ندوات السمر، فلم تكن تدور إلا حول تحليل سياسي أو ترديد شعرى أو أقوال مفيدة، فيها الرأى والرأى الآخر ؛ تتسع للخلافات ولا ترفضه وتتحمل المعارضة ولا تصدها. وكانت آخر الندوات المحترمة فى مصر ندوة الحكيم (توفيق الحكيم) التى ابتدأت بالحكيم والدكتور القللي وشخصى، ثم ظلت تتسع حتى شملت أطيافا مختلفة. وكان الكلام طوال الندوة موضوعى، يدخل فى لبّ المواضيع ويتحاشى اللغو ؛ كما أنه لم يمس شخصا على الإطلاق. فقد حرص الجميع على تجنب الاشاعة والغيبة والنميمة، فإذا كان الحديث عن أغنية مثلا، تعرض لمعانى الأغنية أو للحنها أو لأدائها، مع تناول كل ذلك بشىء من التقدير لكل جهد صادق وأى عمل خالص.
ولو كفـّت العقلية العربية عن البحث عن الإشاعات، وإلى ترك الغيبة والنميمة، ولم تقل إلا صدقا ولم تكرر إلا حقا، لتغير الحال وتبدل المآل. ومن صميم ذلك أن يمتنع الكلام والحديث عن التدليس والمخاتلة والتلبيس، ليكون حقا وصدقا. إن الكلام الكثير السطحى المبتذل (أى الرغى) معثرة للروح ومبذلة للعقل ومنثرة للنفس، يضر الراغى والمستمع والمشترك فى الرغى ولا يفيدهم شيئا.
(ب) التحليل لا التلقين (أو الحفظ): درج العقل العربى على حفظ النصوص، شعرا كانت أم نثرا، دون تحليل لمعانيها وفهم لمراميها. فهى عقلية تنبنى على الحفظ والتلقين (Memorizing) وتعرض عن الفهم والتحليل (Analyzing)، مع أن أكثر الشعوب الأخرى غيرت من عقليتها وبدلت من ذهنيتها لتـُبنى أساسا على الفهم والتحليل والمقارنة، وما ماثل. لكن العقل العربى مازال على قديمه يحفظ بغير فهم أو يصم دون فكر، فيحول الإنسان إلى ببغاء، ويردد ما يسمع وما حفظ دون أن يغوص فى معانيه، وهو ما عبر عنه القرآن بالقول إنه مثل الحمار يحمل أسفارا.
دائرة المعارف البريطانية (Encyclopedia Britannica)، كانت تصدر فى ثلاثين مجلدا من القطع الكبير، لكنها صارت الآن توجد، بكل ما فيها، على قرص مدمج (C.D). ولا يمكن أن يوجد شخص فى قدرته أن يحفظ كل ما فى الموسوعة البريطانية، لكن الفهم والتحليل هو الأمر الصائب فى هذا المجال.
كان يقال فى الجامعات المصرية، إن الجامعة لا تعلم الطالب، ولكن تعلمه كيف يتعلم. وكان أهم ما استفدت به من الجامعة المصرية وجامعة هارفارد (التى درست فيها منهجا Course عن القانون والإقتصاد) أن تعلمت طريقة البحث العلمى وأسلوب الفكر المنطقى ونظام التحقق فى المراجع، وهذا ما ينبغى أن تنتقل إليه العقلية العربية، فلا يكون خطابها سداحا مداحا، يقول ما لا يفهم ويكتب ما لا يعرف، إنما يحلل ويفهم ويراجع ويتثبت من كل كلمة يلفظها أو يكتبها.
إننا نكافىء من يحفظ القرآن، ويقول الحافظون للقرآن عن أنفسهم إنهم حملة كتاب الله، لكن أكثرهم لا يعرف مما حفظ إلا قليلا، ولا يفهم مما فى رأسه إلا أقل القليل.
(ج) روح البحث { ولا نقول روح النقد لما للنقد من معنى كريه فى العقل العربى } (Spirit of inquiry). فالعقل العربى يقوم على الإطلاق، أى المطلقات (Absolutism) فى كل جانب وأى موضوع. ومقتضى ذلك أن يرفض أى نقد ويأبى أى تعديل أو تصحيح. وبالاطلاقية تتكون الروح الإقصائية، التى تقصى عنها كل من يعارضها أو يخالفها، ولو فى قول بسيط أو فى تصرف عارض. وهذا الإتجاه أحادى الجانب، يطبع العقل بإسلوب أحادى الفهم والتصرف، إقصائى للغير، شخصا كان أو شعبا أو فكرا.
والاقصاء يورث التطرف والتعصب، وينفى الوسطية تماما. فهو يرى أنه على الحق فيما يقول ويردد (وربما لما لا يعرفه ولا يفهمه)، بينما الغير ndash; شعبا كان أو فكرا أو فردا ndash; هو نسبى، أى بعيد عن الحقيقة والصواب. وفى هذا المعنى يقول الشاعر الجاهلي:-
ونحن آناس لا توسط عندنا.. لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وهذا المفهوم سار فى العقل العربى وساد على كل عناصر، رغم أن القرآن يدعو إلى الوسطية. فإذا كنا لا نقبل إلا الصدر أو القبر، فمن ذا الذى يعطى الصدر (الصدارة) لمن يتصور أنه أدنى وأضعف وأهون منه. إننا بهذا الطبع نقدم للآخرين سببا لنفينا والتخوف منا والتحوط من صدارتنا.
تحديث العقل العربى من ثم، ضرورة لا معدى عنها ولا مفر منها، إن لم يكن لما سلف بيانه، فعلى الأقل لمواجهة آثار الأجهزة التى نغزو بها عقولنا ونفوسنا، ونتكالب عليها، ونجعلها المعيار الفردى والإجتماعى للمكانة والسيادة، ثم تقف سلبـيين إزاء ما تحدثه من آثار بعيدة المدى على عقولنا ونفوسنا ومجتمعاتـنا وحيواتنا، بهذا نكون مقودين بدلا من أن يكون لنا القيادة، ولو على أنفسنا وهذه السيطرة سوف تجعل من كل فرد أمة (أى وحدة منتجة) فنستطيع بذلك فهم أساليب الانتاج الحديثة، مما يجعلنا على اكتفاء فى زراعة ما نأكل وصناعة ما نحمى به أنفسنا. بغير ذلك نكون نحن أعداء أنفسنا.