بدأ علم الإقتصاد إثر، وفى خضـّم، ظهور الثورة الصناعية، فى بريطانيا وألمانيا إعتباراً من القرن السادس عشر. وقد وضع آدم سميث البريطاني (1723 ndash; 1790) أسُس علم الإقتصاد فى معادلة واحدة للإنتاج الصناعي، ولكل إنتاج، تتكون من المشروع (المصنع أو الأرض)، ومن رأس المال، ومن العمل. وقدم الفريد تايلور الأمريكى فكرة تقسيم العمل، ولما طبـّقها فورد فى مصنعه لإنتاج السيارات صادفت نجاحاً عظيماً. فبدلا من أن ينتج عامل واحد أو مجموعة من العمال كل سيارة، فقد أنشئت خطوط للإنتاج، حيث يقوم كل عامل، أو مجموعة من العمال، بإنتاج جزء واحد من السيارة. وتتجمع خطوط الإنتاج شيئا فشيئا، حتى يتم فى النهاية إنتاج كل السيارة. ولما تحقق من هذه الفكرة رَخص سعر السيارة، نتيجة زيادة الإنتاج ورخص التكلفة، صارت فكرة تقسيم العمل أساساً لأى إنتاج سليم. ومع الوقت أضاف الإقتصاديون الأمريكيون إلى معادلة آدم سميث السالف بيانها، وإلى فكرة ألفرد تايلور المشار إليها من قبل، مبدأ التنظيم، إذ تبين لهم أن الإنتاج على قواعد من التنظيم تقرر مُسْبقا، وتواكب الإنتاج، وتصاحب التوزيع، يؤدى إلى الإنتاج فى أحسن الظروف (وهو ما يعْنى الإنتاج بأعلى وفرة وبأقل كـُلفة).
بهذه الجهود النظرية والتطبيقية صار علم الإقتصاد، وسار الإنتاج الصناعى، وهو يتقدم فى شتى المجالات. ومع الوقت بدأت الآلات تتعقد وتتركب (تزداد تركيبا) فلم تعد القدرة اليدوية كافية للإنتاج بهذه الآلات المعقدة والمركـّبة، وإنما إقتضى الأمر لهذا الإنتاج معرفة علمية، وخبرة عالية، ودُربة كافية. فالعامل الغـُفل من المعرفة العلمية أو الخبرة العالية أو الدراية الكافية لم يعد له مكان فى إنتاج يقوم على آلات معقدة ومركبة تحتاج فى تشغيلها إلى مهارات خاصة. وبدخول التقنية (التكنولوجيا) ساحة الإنتاج أزيح نهائياً من هذه الساحة ndash; كل من لم يكن مُرَشـّداً بطريقة واعية سليمة، كى ما يستطيع فهم التقنية وإدارة الآلة التى تقوم على أساسها، وإصلاح أىّ خطأ يطرأ عليها، حتى لا تتعطل أو تتوقف، ولو مدة وجيزة. فالتعطيل لفترة قليلة يؤثر سلبـياً على الإنتاج، والتوقف نهائياً يجعل من الآلة ndash; ذات الثمن الباهظ نتيجة التقنية الرفيعة (Hi-tec)، قطعة من الحديد، ضررها أكثر من نفعها. ومن هذا التطور فى الإنتاج وعناصره، نشأت مفاهيم التنمية البشرية.
فى عام 1973 ndash; وقت أن كان العالم العربى محموما بداء السياسة حتى فقد الوعى ndash; نشرنا كتابنا الرابع quot; حصاد العقل quot; وفيه أشرنا إلى تدرّج الإنتاج حتى أصبح يُعنى بالإنسان، ومن خلال التنمية البشرية، فجاء فى الكتاب نصّاً quot; إن الإنسان الفرد ndash; لأول مرة فى التاريخ ndash; وعلى مستوى الناس جميعاً ndash; قد أصبح عنصراً مهما للدولة والمجتمع، وعنصراً فعالا فى السياسة والإقتصاد، وعُنصرا منتجاً للقيم والأخلاق، ذلك لأن التقنية (التكنولوجيا) ليست مجموعة الآت وأدوات، وإنما هى فى حقيقتها مجموعة وسائل موجَّهة، لا يكفى لها أن تستبدل فى اليد آلة بآلة، وإنما يتعين ndash; لكفاية عملها ndash; أن تـُستخدم من قبل أناس يفهمون ما يعملون، ويريدون ويستطيعون أن يكيـّفوا أنفسهم فى يسر (وسلاسة) مع التغيرات السلوكية التى تستلزمها ؛ ومن ثم كان قيامها يقتضى تنمية حقيقية للإنسان ذاته (Human Development) ؛ بتثقيف ممكناته وتفتيح ملكاته وإطلاق قابلياته الإبداعية. وهذا الفارق المهم هو الذى أدى إلى تغيير النظر فى عملية التنمية، من عملية إقتصادية إلى عملية سياسية ثقافية إجتماعية، ومن معادلة رأسمالية ثلاثية العناصر، تقوم على الإنتاج والإدخار والتوزيع، إلى معادلة ذات عناصر متعددة، يُحسب الإنسان أهم عـْنصر فيها. ومن هنا رأى بعض الإقتصاديين أن العمل الجمعى الذى يُمكن أن يُقبل إقتصاديا ndash; فى العصر الحاضر ndash; هو مبدأ إستبعاد كل سياسة ترمى إلى تهديم الأشخاص وتبديد الأشياء التى يمكن أن تنفع البشر، والذى يقوم على أسلوب الإستخدام الكامل ndash; فى السياق العالمى كله - لجميع الموارد والقوى الإنسانية، بحيث يكون الهدف تأمين الأحوال المادية التى تعتبرها العلوم ضرورة لتفتح الإنسان تفتحاً كاملاً.
بهذا تحولت التقنية (التكنولوجيا) بالإنسان من المحيط الضيق إلى أفق رحيب تستهدف فيه الإنسان كله والإنسانية جميعاً، ثم حولت الإنسان ndash; وقد أصبح الهدف والغاية ndash; إلى الوسائل المستخدمة، حيث يتساءل عن أسلوب التقنية، وما إذا كان يستهدفه فعلا ؟
فباسم أى قيم سيتم إختيار أسس التقدم، وما يُراد تنمية من طاقات ؟
وفى أى سبيل سوف يُقنىّ هذا التقدم، وتـُدفع الطاقات ؟
ومن الذى يملك الحق فى إختيار القيم وفى تحديد القنوات ؟
ذلك ما جاء نصا فى كتابنا حصاد العقل (الذى إنتهينا من كتابته فى إبريل 1972، ثم نشر عام 1973) ولو أنه ظهر فى مجتمع يُعنى بالثقافة ويحتفى بالإنسان لأحدث أثرا عميقاً شديداً، ولاهتمت الحكومات والأفراد به، ككتاب يرسم معانى وحدود التنمية البشرية التى صارت فيما بعد، تعبيراً له أهمية خاصة.
إن الثورة الصناعية ndash; فى بدايتها ndash; كانت تعتمد على الجهد العضلى أو العمل اليدوى، فكانت من ثم إستبعاداً لقوى العمل، وهذا ما ألهم كارل ماركس بالتركيز على عنصر العمل بدلا من عنصر رأس المال (إنما فى تطبيق نظريته حدث خلل كبير، جعل من الإشتراكية الماركسية صورة أخرى للرأسمالية، هى رأسمالية الحزب أو رأسمالية الحاكم). وبعد أن تقدمت قوى الصناعة وأصبحت جلـّها تركز أساسا على التقنية العالية (Hi ndash; Tec) فقد تحرر الإنسان لأنه أصبح سيد الآلة بعد أن عاش زمنا وهو عبد لها ؛ وأصبح من الضرورى أن يحدد الهدف من الإنتاج.
إن التنمية البشرية تعنى فى صميمها، سعة فى المعلومات، ووفرة فى التجارب، وخبرة متعددة الجوانب،ومـُكنة عالية للتصرف، وقدرة على معرفة لغات الصناعة ولغات التخاطب البشرى. فإذا لم تشمل كل ذلك وتحيط بكل العناصر، فإنها تترك الفرد أو المجتمع وهو عاطل من قدرة العمل الفعال، لإنتاج الأسلحة التى تحميه، وإنتاج الأغذية التى تلزمه ؛ ومن ثم يكون كمـّا مُهملا ونفاية، ولا يكون كيفاً قادراً وفعالاً. ففى تقدير الشعوب تقديراً سليماً لا يتوقف الأمر على الكثرة العددية، وإلا كانت غثاء وعبئاً وعبثاً، لكن هذا التقدير يقوم على الكفاية النوعية. فمئة من الحاصلين على تنمية بشرية صحيحة خير وأفضل وأقوى وأبقى من ملايين من العاطلين من هذه التنمية.
إنه ما من نهضة حضارية وما من نقلة إنتاجية إلاّ وكان العلم والمعرفة أساساً لها. وإذا كان الساسة مشغولين بأعباء العمل اليومى، فإن تجديد العلم وتحديث المعرفة يكون من عمل المفكرين والعلماء الذين يسبقون أزمانهم وأجيالهم، فيصلون إلى الحقيقة التى لا معدى عنها لأى تقدم. وعلى الساسة الجادين أن يلجأوا إلى ما يقدمه هؤلاء العلماء والمفكرين، وإلا كانوا هم السبب فى تحويل شعوبهم من كيف منتج إلى كم مستهلك. وفى اليابان وفى كوريا الجنوبية وفى الصين وفى الهند إستطاع الساسة الحكماء أن ينهضوا ببلادهم وأن ينقلوهم من حال التخلف إلى حال التحضر، حتى إقترب الناتج القومى (NGP) لكوريا الجنوبية من الناتج القومى للبلاد العربية مجتمعة.
ثروات الأمم لم تعد تـُقدر بعدد أفرادها ولا بكم ما تملك ndash; نقدا أو عروضاً ndash; فقد كان ذلك فى ماض سلف وانتهى أوانه، وإن الثروة الحقيقية حالا (حالياً) هى فى الإنسان نفسه، الذى يحظى بتنمية بشرية عالية، وذلك ما يبدو واضحاً فى جزيرة هونج كونج وجزيرة سنغافورة وجزيرة تايوان. فالناس فى هذه الجزر الثلاث هم قلة عددية، وإنما صاروا بالتنمية البشرية قمما ونوعا وكثرة مؤثرة تأثيراً بعيد المدى. وهم فى ذلك يركنون إلى أنفسهم ولا يعمدون إلى طلب المعونة أو المشورة أو العمل أو التخطيط من أجانب عنهم.
والفرد المُرشّد عادة ما يكون قليل الحاجة كثير الإنتاج. أما إذا قيل عن شعوب إنها شعوب استهلاكية فذلك وصف لا يصح ولا يكون حين يكون الشعب مستهلكاً لما ينتجه، فهذا الإستهلاك يكون ضرورة للإنتاج، وهو جزء من دورة العمل. أما المجتمعات الإستهلاكية حقيقة فهى المجتمعات التى تعيش على الريع وتـُسرف فى إستهلاك ما ينتجه الغير.
إنه لمن الغريب أن بعض الشعوب، ومنها الشعوب العربية، لا تعرف التنمية البشرية، ولا تسعى إليها، ليكون كل فرد فيها بمثابة أمة فى ذاته، يستهلك قليلا وينتج كثيراً، غير أن الأكثر غرابة أن يكون بعض الحكام على غير دراية بمفهوم التنمية البشرية إطلاقاً، ويحلطون بينه وبين التربية البشرية. فإذا أردنا أن نفهم لماذا تكون الشعوب العربية دائماً فى نهاية الصف، فى الإنتاج وغيره، فعلينا أن نفهم السبب الحقيقى لهذا، وهى أن هذه الشعوب لا تـُعنى بالإنسان، ولا تهتم بصقله وتثقيفه وتهذيبه ليكون بالتنمية البشرية، أمة فى فرد، وليس فرداً فى أمة.