كنت وساقي ممدتين على استقامتهما، متراجعاً بظهري ورأسي إلى الخلف على الكرسي الخيزران المتأرجح، وأنا أمسك بالريموت كونترول، أدور به بين القنوات التليفزيونية الفضائية، أبحث عن فيلم رومانسي من إنتاج زمن الستينات الوهمي، يوم كانت المرأة لكي تكون جميلة ورقيقة عليها أن تقدم جسدها للرجل على طبق من ذهب، وأن تبيع كل دنياها من أجل عينية المسبلتين لها، وذوباً في تنهداته الحارة، وقبلاته زنة الألف رطل.. في البداية لم يتح لي تسرعي في تقليب القنوات بحثاً عن ضالتي، أن أتدبر مشاهداً صاخبة يتلو الواحد الآخر، فقد كنت واثقاً من أنني سأعثر سريعاً على صدر ناهد وعيون ساحرة وأرداف مكتنزة وصوت هامس يقول: quot;أنا لك على طول خليك ليquot;، أو quot;ضحيت هنايا فداه، وحاعيش على ذكراهquot;، مررت على جميع قنوات الأقمار الصناعية العربية استخداماً والغربية صنعاً لكن دون جدوى.. العجيب أن لم تصادفني في بحثي أي فقرة إعلانية، ولا حتى تلك التي تتحدى الملل بأن تعرض عليك فقرة مملة، يسبقها إعلان عن علاج بالأعشاب يشفي العقم عند الرجال والنساء في 21 يوماً بالتمام والكمال، وكنت أتعجب دوماً من أين تأتي تلك الأدوية بزبائن يتحدثون العربية، في حين أن quot;الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدةquot; لم تتفوق على العالم كله إلا في القدرة على التناسل، وكثيراً ما تساءلت عن سر هذا التفوق الفريد، وإن كان يعود إلى كفاءة الماكينات التناسلية العربية، أم إلى الرعي والتداوي بتلك الأعشاب السحرية المباركة.. فشلي في العثور على الفيلم الرومانسي ضالتي دفعني للاعتدال بعض الشيء على كرسي الهزاز المريح، وقلت لنفسي فلأتوجه مباشرة إلى الفضائية اللبنانية، مادامت لبنان هي قطرة الندى على صخرة العرب الجافة والمتشققة.. كان المنظر الذي فوجئت به غير قابل للتصديق.. أغمضت عيني وفتحتهما عدة مرات، للتأكد من صدق الصورة التي وصلت إشاراتها إلى خلايا البصر العصبية.. لم تزل الصورة على حالها، والمناظر العجيبة تتالى.. طائرة عملاقة عليها شعار سيف يطيح بستة رؤوس دفعة واحد، ربما ترمز لقارات العالم الست.. تقف على أرض مطار يظهر من المباني في الخلفية أنه مطار بيروت.. مع جئير من مذيع القناة لم تلتقط أعصابي السمعية كلماته يُفتح باب الطائرة.. ينزل أسامة بن لادن بجلبابه الأجرب وعصاه الطويلة التي سبق أن رأيته يهرول بها على تلال وحصباء مجاهل أفغانستان ومنطقة القبائل شمال باكستان، ومن خلفه الظواهري بذات سحنته الكفيلة بقطع الخلف من النساء، وتطيير النوم من عيون الأطفال حديثي الولادة.. عند نهاية سلم الطائرة كان في انتظاره السيد حسن نصر الله، يتقدم رهط من ذوي العمامات السوداء والبيضاء، في لفتة تسامح ديني لم يسبق لنا أن شاهدنا مثيلها، يصاحبهم عدد قليل من الأفندية بزي الفرنجة والعياذ بالله.. ما أن وطأت قدما بن لادن وطرف عكازه أرض مطار بيروت، حتى تقدمت إليه مجموعة أطفال ملثمين بالسواد، حاملين قنابل يدوية وأحزمة ناسفة، تقبلها منهم شاكراً بجهامة تتناسب مع تاريخه الجهادي ومنزلته الجليلة، ثم وجد جسده الضامر في أحضان جسد نصر الله الرخص، من الرعي على خيرات جبل لبنان.. تعانقت الأجساد واللحى الكثة المغبرة بحميمية، بدت لوهلة عاطفية ومؤثرة.. بدا لوهلة أيضاً كأن هؤلاء المتعانقين بشراً مثل كل البشر، لهم مالنا نحن غير المجاهدين من أحاسيس ومشاعر إنسانية تستدعي البكاء وجداً وموجدة.. هي وهلة لا أكثر، بعدها كانت الصورة ذاتها جزعة بما يحوي إطارها.. أخطر ما أنجبت البشرية من كائنات يجتمعون معاً في مشهد واحد مثير للتقيؤ هلعاً.. استعادني من صورة قفزت إلى الذهن للزرقاوي ومقتدى الصدر ذي الملامح المغولية، منظر دماء قانية تلطخ أيادي ولحى وتشكيلة أزياء الجمع المتصافح عند سلم الطائرة.. اكتست الوجوه بحبور بدا مصطنعاً ومقززاً.. تقدموا بعدها على سجادة، كانت ويا للعجب سوداء ملطخة ببقع حمراء، وربما كانت بالأساس حمراء تم صبغها بالسواد.. متوجهين لاستعراض حرس الشرف.. سار الجمع المقدس بين صفين بلا نهاية من الملثمين لابسي السواد، فيما صوت المذيع الجهوري يجلجل مهللاً مكبراً، وجهاز التليفزيون يكاد يرتج، وهو يعلن للعالم وللمسلمين في كل مكان وصول المجاهد الأكبر وصحبه إلى أرض لبنان المباركة قاعدة الخلافة الإسلامية الفتية، التي سيرتعد منها وتتصدع أمامها كل قلاع الكفر والشرك في العالم.. سارعت بخفض مستوى الصوت قبل أن تتلف سماعات الجهاز أو طبلة أذني، ثم قمت بغلق فمي الذي اكتشفت أنه كان فاغراً كبوابات رفح، يوم قامت حماس باجتياحها الجماهيري المقدس للحدود المصرية.. لاشعورياً وجدتني أضغط على الريموت كونترول، متنقلاً بين القنوات الفضائية العربية.. كان بعضها ينقل على الهواء مباشرة، ما أجمع المذيعون على أنه اللحظة التاريخية المجيدة والمباركة، لوصول البطل المجاهد وصحبه إلى قاعدة انطلاق الزحف المقدس على معاقل الكفر في كل أركان الكرة الأرضية.. لا تختلف كلمات المذيعين من قناة إلى أخرى، إلا تلك الاختلافات في المفردات، والتي تدل على الخلفية الأصلية للمذيع، وإن كان من أصول يسارية أو قومجية، أو كان أصولي سلفي صميم، ويا لعجبي كانوا للمرة الأولى متفقون في محتوى ما يقولون، وهم من لم أستمع منهم طوال عمري الذي بلغ أرذله إلى أمر قد اتفقوا جميعاً عليه.. قنوات أخرى كانت تعرض حشوداً هائلة لجماهير في حالة هياج هستيري، ترفع صوراً ضخمة للثلاثي بن لادن والظواهري وحسن نصر الله، والبعض يلوح بسيوف، والبعض يلوحون بقبضاتهم ويتوعدون عدواً غير مرئي.. كان البعض يحمل على كتفيه طفلاً ملثماً بالسواد، يلوح مع أبيه بقبضته الصغيرة.. لم تختلف المناظر كثيراً من قناة إلى قناة، أو من عاصمة عربية إلى أخرى.. أما قناة الحرة والـ بي. بي. سي. العربية فكانتا تتحدثان عن مشاورات لعقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة التطورات الجارية، وعن عقوبات اقتصادية يجري التشاور حولها، على إيران وسوريا ولبنان، وعن الاستقبال الجماهيري الحماسي لبن لادن والظواهري في بيروت، كما تحدثتا عن توقعات أن يعلن بن لادن في مؤتمر صحفي في وقت لاحق عن قيام دولة الخلافة الإسلامية المقدسة وعاصمتها بيروت، وأن هناك أنباء عن رفع درجة الاستعداد في الأسطولين الأمريكيين الخامس والسادس.. حين وصلت في ترحالي بين القنوات الفضائية إلى الفضائية المصرية، كانت الميكروفونات تتزاحم أمام السيد أمين عام الجامعة العربية، والذي كان يعتمر عمامة نصفها أسود والنصف الآخر أبيض، وهو يتحدث عن تشكيل لجنة من وزراء الخارجية العرب، لدراسة الدعوات المقدمة لبن لادن من الجماهير والعواصم العربية المختلفة لزيارتها، تمهيداً لوضع جدول زمني بالزيارات المباركة المنتظرة، لتقديمه لفضيلته لبحث ما يراه إزاء أشواق الجماهير لأن تكتحل عيونها برؤية طلعته البهية المقدسة..... حين استيقظت وجدتني مكوماً حول نفسي كما القنفذ.. وكان الغطاء منحسراً عن نصفي السفلي.
[email protected]