quot;آفي مغرابي quot; على شاشة تلفزيون المستقبل الإخبارية يطلّ بفيلم وثائقي في سهرة الأول من آب، ليعاد عرض الفيلم الوثائقي نفسه، بعد أخبار منتصف نهار اليوم التالي على الشاشة المذكورة، وربما سيتكرر العرض لأيام قادمة وفي أوقات مختلفة ومتعددة.
يبدأ الوثائقي بدون تصنيع ورتوش لما يتطلبه عادة الإعداد المنمّق، أو الصورة المبهرة لغاية كهذه، فقط quot;آفي مغرابي quot; الناشط اليساري الإسرائيلي وجها لوجه مع كاميرا فيديو شخصية على الأغلب، ومنصّة العرض غرفة منزلية، بأثاث بسيط وخلفية لمكتبة خاصّة، كامل المشهد مرصود بإضاءة متواضعة، بعيدا عن كافة التقنيات المعهودة والمتّبعة في مناسبات التصوير والتحضير والإعداد التي تعتمدها مؤسسات الإنتاج السينمائي.
يبدأ آفي بجملة بسيطة باللغة العبرية التي سادت على أجواء الفيلم عموما وقد رافقتها الترجمة العربية أسفل الشاشة، بالقول و{لا بدّ من التنويه أن الكلام مُدْرج هنا بتصرّف}:quot;كنت أعتقد أن الحكومة الإسرائيلية محقّة في حربها على الفلسطينيين بصفتهم أعداء لنا ويستحقون المواجهة للدفاع عن الكيان الإسرائيلي المهددquot;،
ثم يتابع {بتصرّف أيضا }: quot;لكن بعد أن عملتُ على هذا المشروع، مشروع الفيلم الوثائقي الذي أردته أن يكون هدفي المُحقق بعد طول تفكير عن شيء أفعله وبتأييد من زوجتي /تامي /، وأثناء البحث تفتحت مداركي على حقائق وأسئلة كثيرة أهمّها ما فائدة الحرب على لبنان؟ ولماذا كانت مجازر /صبرا وشاتيلا /؟ ولماذا من بعدها /قانا /
وما تلاها من حروب على الفلسطينيين هنا؟quot;.
بحركة استهجان واستغراب وشجب معبّرة بمعان كثيرة، ترسمها ملامحه لتؤكّد وبدون تكلّف القول: quot;أتعبتني كثيرا هذه الأسئلة وأثّرت على حياتي وبالتأكيد قد غيّرت نظرتي لكثير من الأمور، بل غيّرت قطعا حياتي ككل، لم أعد أستطيع العودة إلى الوراء، أنا الآن.. أفهم، ولا بدّ لي أن أسأل لأجد مُستراحي في الإجابة، لكن أين هي تُراها الإجابة؟quot;. {أكرر أيضا الكلام هنا بتصرّف }.
هكذا تنسحب هذه الأسئلة على امتداد الفيلم الوثائقي وتتموضع داخل السياق كركائز أساسيّة يقوم عليها السيناريو بشكل عام، حتى يصير كل سؤال من الأسئلة المطروحة بمثابة محور قائم بحدّ ذاته يفتح جملة من التداعيات الحرّة، ما يلبث أن يُغلقها بطرفة مبطنة عن شارون أو تصرّف عابر لشارون يحمل جملة كاملة من الدلالات التي تحتاج لصفحات من الاستقراء يُمكن أن نبني عليها الكثير من الملاحظات، غير أنّ بثّ الفيلم يتزامن مع غياب شارون عن منصّة الحدث السياسي وعن دائرة الفعل العسكري، في ظل البلبلة الحرجة التي تُهدد كيانيّة الحكومة الإسرائيلية بتعرض رئيس وزرائها مؤخّرا quot;إيهود أولمرت quot;إلى التحقيق القضائي وملاحقته بقضايا الرشوة والفساد وقبلها مطالبته الانسحاب والاستقالة من رئاسة الحكومة الإسرائيلية نتيجة توجيهاته وحساباته الخاطئة بحق حزب الله حسب تقرير quot;فينو غراد quot; وتوريط الجيش الإسرائيلي بحرب خاسرة في لبنان تموز 2006.
وربما يمكن ترجيح هذه البلبلة على النقيض تماما إذ تأت هذه المساءلة القضائية بحق رئيس وزراء حكومة في هذه المنطقة quot;تحديدا quot; بمثابة نهضة حقيقية لقيام الديمقراطية وترسيخها كمفهوم، ومبدأ، وأسلوب، ونمط، وصلاحية، وضرورة لابدّ من حصولها، لوضع حدّ إزاء كافة التعدّيات التي تحصل في ظل العديد من الحكومات العربية.
فكم من مسؤول عربي ثبتَتْ إدانته في نظر حساباته الشخصية، وحسابات الدائرة التي يعمل بها، وحسابات المثقف الذي تعلّم أن يتابع ويتقصّى ويرى ويسكت جيدا ليس ذلك فحسب بل يكسر عنق القلم قبل أن يتفوّه ببنتِ شفة، ليسلم وينجو بريشه، حتى لا يكون عرضة للسلخ تحت أية طائلة لأية جهة كانت.
وكم من مثقف وصحافي تحول إلى بوق من أبواق المرحلة وشخوصها، بدلا من المواجهة ووضع النقاط على الحروف؟!....
وبالعودة إلى الوثائقي المذكور نلحظ أنّ البطولة المُطلقة في الفيلم وكما أرادها مغرابي كانت لquot;أرييل شارون quot; وحده، وشارون هو رجل الحرب على لبنان، ورجل الاجتياح الكبير للبنان، ورجل التهديد الدائم الذي كان للمنطقة عموما، مؤسس حزب quot;كاديما quot; الذي لم يستطع أن يتولى رئاسته لأكثر من أيام التأسيس، فقد دخل غيبوبة مفتوحة حتى يومنا هذا غاب فيها شارون ليس عن الأنظار فحسب، بل غاب عن الأذهان وعن الإعلام بذات القدر حتى أعاده آفي مغرابي إلى الشاشة الصغيرة، وميدان الجدل المحظور، وإن لبعض المتابعين رغما.
يواصل آفي حديثه على الشاشة الصغيرة مُلازما للصورة، بشيء من الطلاقة المعدّة بإحكام لسيناريو مكتوب بلغة ذاتية محضة هي أقرب إلى السجال النفسي، وبتبسيط متعمّد لا يخلو من التعقيد الضمني للفكرة، وبملامح دراميّة محنّكة ومحيّرة في آن، ففي الوقت الذي تظنّ أن عينه تبشّر بدمعة أسف تدعم الكلمة، تفاجئك ابتسامة مضمرة يحجبها بذكاء ومهارة عن عين الكاميرا وعين المتلقي، وهذا الأسلوب يندرج على كامل السياق، ليصبح أشبه بمرآة تسجّل تداعيات آفي وتساؤلاته وهواجسه ومراجعات كثيرة لمواطن إسرائيلي أمضى زمنا من القناعة والتسليم بمشيئة حكومته وخططها العسكرية للدفاع عن حقوقها ووجودها ومصيرها ومجدها، وإذا به يصحو على واقع لا بدّ من متابعته والتوقّف عند مجرياته، من خلال مطاردة شارون، كمسؤول يعيب عليه ويستنكر قراراته وفعله على صعيد التخطيط العسكري، وفي غمرة الملاحقة يستسيغ مغرابي لدى تقرّبه من شارون صفات كثيرة ميّزته بنظره، إذ أنّ شارون زوج محبّ وأب عطوف وصديق ودود ورجل ذكي لم يمنعه ذكاؤه من إظهار الطيبة والتواضع والبساطة وروح النكتة، مما أوقع آفي في شرك الإعجاب المتفاقم، الذي حذرت منه تامي زوجها آفي، في إحدى الحوارات الهاتفية quot;الانتباه من مغبّة الوقوع في غرام شارون على حدّ تعبيرها quot;.
ومع آفي نتعرّف على شخصية شارون الإنسانية بكل ما فيها من رصد عفوي وتلقائي خالٍ من التأهّب والتحضير لعدسة الكاميرا كما يفعل مجمل السياسيين العرب، قبل الظهور أمام الشاشة بارتداء الأناقة واللباقة والأقنعة والقفّازات المطاطية الخاوية من البصمات.
لحظات كثيرة دوّنَتها كاميرا مغرابي من حركة شارون الحيوية يوم كانت، على الرغم من فرط البدانة التي اعترف بها شارون وأظهر معها دون تردد، بل بثقة بالغة حبّه للطعام ومتعته البالغة في التلذذ بتذوق المختلف منه، وكان ثمّة لقطات سُجلت على عجل تقتصر على مساءلة حيّة ومباشرة وحاسمة لشارون كممثل لدولة ديمقراطية كإسرائيل آنذاك مفادها quot;كيف بوسع دولة ديمقراطية كإسرائيل أن تكون دولة حرب؟ ودولة احتلال؟ وتهدد بتقسيم القدس؟quot;.
بنفس العجالة التي طُرح فيها السؤال على شارون جاء تمرير الإجابة بحجة واهية لم يُتمكن شارون من توضيحها أو نفيها، بأكثر من غمغمة سريعة بالنفي التام مسألة التهويد كأمر غير وارد في ذهن الحكومة الإسرائيلية على الإطلاق، وتكذيب لصيغة السؤال الذي طرحه أحد المشاركين في تصوير وتسجيل الوثائقي مع آفي مغرابي، حيث كان الجدل لهذه النقاط المصيرية إن صحّ التعبير سريعا وساخنا نسبيّا قياسا للسياق العام الذي اعتمده آفي لتسجيل فيلمه الوثائقي، وسواء كان السجال المذكور هامشيا أم محوريا، سرديا أم مقتضبا فهو سجال لن نراه ما حيينا في عالمنا العربي يدور عبر الشاشة الصغيرة أو عبر الشارع الفسيح أو عبر أي قنوات أخرى بين مثقف ومسؤول يتجسّد فيه وبهذا الشكل معنى الاستقلالية، ومعنى التعبير عن حرية الرأي، التي يُمكن أن تنشأ بين مسؤول ومثقف على متن هامش واضح وصريح ومُعلن تماما، كأن يجرأ مثقف على مساءلة مسؤول بمنصب شارون مثلا أو حتى بمقام بواب عمارة من عمارات المسؤولين الكرام، وذلك بتوجيه استفهام أشبه بإدانة محسومة شكلا ومضمونا أربكت أعتى دُهاة الاحتلال شراسة.
ماذا أضاف عرض هذا الوثائقي؟...
بالتأكيد قد أضاف الكثير، عندما بدأ بسؤال مشروع يحضرني بإلحاح لأجزم بأهمية هذا العرض دون ريب، إذ أنّ أصابع الاتهام لم تكن توجّه تجنّيا على شارون وحكومته الإسرائيلية، لتنصفَ شفهيّا وإن بدون إنصاف ملموس عمليّا، قضية فلسطين الوطن المحتل، وقضية اجتياح لبنان وصبرا وشاتيلا وقانا كمجازر منسية، وخاصّة أننا في طور التأهّب للعلاقات التطبيعية وربما الوديّة قريبا مع أبناء عمومتنا الألداء - سابقا- quot;إسرائيلquot;.
فقد قدّر لنا وسيكتب علينا تحويل كل ما يمت بصلة تجاه إسرائيل من مشاعر قديمة بوجوب رميها كالعدسات اللاصقة التي تنتهي صلاحيتها بعد الاستعمال المتكرر، ليتعذّر علينا مشاعر كنا نفاخر بجهرها عندما نقول لإسرائيل كم كرهناها ولعناها وشتمناها ونكرناها وتجاوزناها وتجاهلناها وهددناها تهديدات مؤجلة لاستفزازاتها العاجلة دائما، ليصدق المثل القائل /وكأنك يا بو زيد ما غزيت quot;،
فمن يعلم متى سنكتب quot;لإيلاف quot; من تل أبيب بدعوة من المؤسسات الإعلامية هناك، الحريصة على صورة مجتمعها، لنعود منها بإعجاب كبير نتشدّق بموجبه عن الديمقراطية المستحدثة في المنطقة، وبإعجاب أكبر للتأهيل العمراني لمجتمع بدأ من quot;الكيبوتسات quot;، ليصير الأهم اقتصاديا على مستوى العالم، ولنبق في نظره بتطبيع أو بدون تطبيع مجرد quot;غوييمquot;.
وربما نحن كذلك في نظر أنفسنا وفي نظر حكومتنا الرشيدة، إذ أنّ قرار الحرب يأتي
quot;تجاوزا quot; لإرادة الشعب تماما كما قرارات السلم ستأتي quot;تجاهلا quot; لإرادة الشعب بصفته آخر من يتكلم.
فقط الشعب الإسرائيلي في هذه المنطقة، هو الذي يستحق مبدأ الاستفتاء والمشاركة من قبل حكومته، الحريصة كل الحرص على رصد وجهة نظر الشارع الإسرائيلي تجاه مسألة الاتفاق مع ndash; سوريا -، حين تأخذ منه كل التعليقات سواء المؤيدة أو الرافضة لمسألة الاتفاق بعين الاحترام أولا والاعتبار من باب الواجب والالتزام المتبادل بين الإسرائيلي كمواطن، والمسؤول كمسؤول فعلا أمام الوطن والواجب. آفي مغرابي أنهى
الفيلم الوثائقي لبدأ رحلة المتاعب مع زوجته تامي ومع أفكاره ومع المتلقي ربما.
www.geocities.com/ghada_samman
gaidoushka@yahoo,com
يبدأ الوثائقي بدون تصنيع ورتوش لما يتطلبه عادة الإعداد المنمّق، أو الصورة المبهرة لغاية كهذه، فقط quot;آفي مغرابي quot; الناشط اليساري الإسرائيلي وجها لوجه مع كاميرا فيديو شخصية على الأغلب، ومنصّة العرض غرفة منزلية، بأثاث بسيط وخلفية لمكتبة خاصّة، كامل المشهد مرصود بإضاءة متواضعة، بعيدا عن كافة التقنيات المعهودة والمتّبعة في مناسبات التصوير والتحضير والإعداد التي تعتمدها مؤسسات الإنتاج السينمائي.
يبدأ آفي بجملة بسيطة باللغة العبرية التي سادت على أجواء الفيلم عموما وقد رافقتها الترجمة العربية أسفل الشاشة، بالقول و{لا بدّ من التنويه أن الكلام مُدْرج هنا بتصرّف}:quot;كنت أعتقد أن الحكومة الإسرائيلية محقّة في حربها على الفلسطينيين بصفتهم أعداء لنا ويستحقون المواجهة للدفاع عن الكيان الإسرائيلي المهددquot;،
ثم يتابع {بتصرّف أيضا }: quot;لكن بعد أن عملتُ على هذا المشروع، مشروع الفيلم الوثائقي الذي أردته أن يكون هدفي المُحقق بعد طول تفكير عن شيء أفعله وبتأييد من زوجتي /تامي /، وأثناء البحث تفتحت مداركي على حقائق وأسئلة كثيرة أهمّها ما فائدة الحرب على لبنان؟ ولماذا كانت مجازر /صبرا وشاتيلا /؟ ولماذا من بعدها /قانا /
وما تلاها من حروب على الفلسطينيين هنا؟quot;.
بحركة استهجان واستغراب وشجب معبّرة بمعان كثيرة، ترسمها ملامحه لتؤكّد وبدون تكلّف القول: quot;أتعبتني كثيرا هذه الأسئلة وأثّرت على حياتي وبالتأكيد قد غيّرت نظرتي لكثير من الأمور، بل غيّرت قطعا حياتي ككل، لم أعد أستطيع العودة إلى الوراء، أنا الآن.. أفهم، ولا بدّ لي أن أسأل لأجد مُستراحي في الإجابة، لكن أين هي تُراها الإجابة؟quot;. {أكرر أيضا الكلام هنا بتصرّف }.
هكذا تنسحب هذه الأسئلة على امتداد الفيلم الوثائقي وتتموضع داخل السياق كركائز أساسيّة يقوم عليها السيناريو بشكل عام، حتى يصير كل سؤال من الأسئلة المطروحة بمثابة محور قائم بحدّ ذاته يفتح جملة من التداعيات الحرّة، ما يلبث أن يُغلقها بطرفة مبطنة عن شارون أو تصرّف عابر لشارون يحمل جملة كاملة من الدلالات التي تحتاج لصفحات من الاستقراء يُمكن أن نبني عليها الكثير من الملاحظات، غير أنّ بثّ الفيلم يتزامن مع غياب شارون عن منصّة الحدث السياسي وعن دائرة الفعل العسكري، في ظل البلبلة الحرجة التي تُهدد كيانيّة الحكومة الإسرائيلية بتعرض رئيس وزرائها مؤخّرا quot;إيهود أولمرت quot;إلى التحقيق القضائي وملاحقته بقضايا الرشوة والفساد وقبلها مطالبته الانسحاب والاستقالة من رئاسة الحكومة الإسرائيلية نتيجة توجيهاته وحساباته الخاطئة بحق حزب الله حسب تقرير quot;فينو غراد quot; وتوريط الجيش الإسرائيلي بحرب خاسرة في لبنان تموز 2006.
وربما يمكن ترجيح هذه البلبلة على النقيض تماما إذ تأت هذه المساءلة القضائية بحق رئيس وزراء حكومة في هذه المنطقة quot;تحديدا quot; بمثابة نهضة حقيقية لقيام الديمقراطية وترسيخها كمفهوم، ومبدأ، وأسلوب، ونمط، وصلاحية، وضرورة لابدّ من حصولها، لوضع حدّ إزاء كافة التعدّيات التي تحصل في ظل العديد من الحكومات العربية.
فكم من مسؤول عربي ثبتَتْ إدانته في نظر حساباته الشخصية، وحسابات الدائرة التي يعمل بها، وحسابات المثقف الذي تعلّم أن يتابع ويتقصّى ويرى ويسكت جيدا ليس ذلك فحسب بل يكسر عنق القلم قبل أن يتفوّه ببنتِ شفة، ليسلم وينجو بريشه، حتى لا يكون عرضة للسلخ تحت أية طائلة لأية جهة كانت.
وكم من مثقف وصحافي تحول إلى بوق من أبواق المرحلة وشخوصها، بدلا من المواجهة ووضع النقاط على الحروف؟!....
وبالعودة إلى الوثائقي المذكور نلحظ أنّ البطولة المُطلقة في الفيلم وكما أرادها مغرابي كانت لquot;أرييل شارون quot; وحده، وشارون هو رجل الحرب على لبنان، ورجل الاجتياح الكبير للبنان، ورجل التهديد الدائم الذي كان للمنطقة عموما، مؤسس حزب quot;كاديما quot; الذي لم يستطع أن يتولى رئاسته لأكثر من أيام التأسيس، فقد دخل غيبوبة مفتوحة حتى يومنا هذا غاب فيها شارون ليس عن الأنظار فحسب، بل غاب عن الأذهان وعن الإعلام بذات القدر حتى أعاده آفي مغرابي إلى الشاشة الصغيرة، وميدان الجدل المحظور، وإن لبعض المتابعين رغما.
يواصل آفي حديثه على الشاشة الصغيرة مُلازما للصورة، بشيء من الطلاقة المعدّة بإحكام لسيناريو مكتوب بلغة ذاتية محضة هي أقرب إلى السجال النفسي، وبتبسيط متعمّد لا يخلو من التعقيد الضمني للفكرة، وبملامح دراميّة محنّكة ومحيّرة في آن، ففي الوقت الذي تظنّ أن عينه تبشّر بدمعة أسف تدعم الكلمة، تفاجئك ابتسامة مضمرة يحجبها بذكاء ومهارة عن عين الكاميرا وعين المتلقي، وهذا الأسلوب يندرج على كامل السياق، ليصبح أشبه بمرآة تسجّل تداعيات آفي وتساؤلاته وهواجسه ومراجعات كثيرة لمواطن إسرائيلي أمضى زمنا من القناعة والتسليم بمشيئة حكومته وخططها العسكرية للدفاع عن حقوقها ووجودها ومصيرها ومجدها، وإذا به يصحو على واقع لا بدّ من متابعته والتوقّف عند مجرياته، من خلال مطاردة شارون، كمسؤول يعيب عليه ويستنكر قراراته وفعله على صعيد التخطيط العسكري، وفي غمرة الملاحقة يستسيغ مغرابي لدى تقرّبه من شارون صفات كثيرة ميّزته بنظره، إذ أنّ شارون زوج محبّ وأب عطوف وصديق ودود ورجل ذكي لم يمنعه ذكاؤه من إظهار الطيبة والتواضع والبساطة وروح النكتة، مما أوقع آفي في شرك الإعجاب المتفاقم، الذي حذرت منه تامي زوجها آفي، في إحدى الحوارات الهاتفية quot;الانتباه من مغبّة الوقوع في غرام شارون على حدّ تعبيرها quot;.
ومع آفي نتعرّف على شخصية شارون الإنسانية بكل ما فيها من رصد عفوي وتلقائي خالٍ من التأهّب والتحضير لعدسة الكاميرا كما يفعل مجمل السياسيين العرب، قبل الظهور أمام الشاشة بارتداء الأناقة واللباقة والأقنعة والقفّازات المطاطية الخاوية من البصمات.
لحظات كثيرة دوّنَتها كاميرا مغرابي من حركة شارون الحيوية يوم كانت، على الرغم من فرط البدانة التي اعترف بها شارون وأظهر معها دون تردد، بل بثقة بالغة حبّه للطعام ومتعته البالغة في التلذذ بتذوق المختلف منه، وكان ثمّة لقطات سُجلت على عجل تقتصر على مساءلة حيّة ومباشرة وحاسمة لشارون كممثل لدولة ديمقراطية كإسرائيل آنذاك مفادها quot;كيف بوسع دولة ديمقراطية كإسرائيل أن تكون دولة حرب؟ ودولة احتلال؟ وتهدد بتقسيم القدس؟quot;.
بنفس العجالة التي طُرح فيها السؤال على شارون جاء تمرير الإجابة بحجة واهية لم يُتمكن شارون من توضيحها أو نفيها، بأكثر من غمغمة سريعة بالنفي التام مسألة التهويد كأمر غير وارد في ذهن الحكومة الإسرائيلية على الإطلاق، وتكذيب لصيغة السؤال الذي طرحه أحد المشاركين في تصوير وتسجيل الوثائقي مع آفي مغرابي، حيث كان الجدل لهذه النقاط المصيرية إن صحّ التعبير سريعا وساخنا نسبيّا قياسا للسياق العام الذي اعتمده آفي لتسجيل فيلمه الوثائقي، وسواء كان السجال المذكور هامشيا أم محوريا، سرديا أم مقتضبا فهو سجال لن نراه ما حيينا في عالمنا العربي يدور عبر الشاشة الصغيرة أو عبر الشارع الفسيح أو عبر أي قنوات أخرى بين مثقف ومسؤول يتجسّد فيه وبهذا الشكل معنى الاستقلالية، ومعنى التعبير عن حرية الرأي، التي يُمكن أن تنشأ بين مسؤول ومثقف على متن هامش واضح وصريح ومُعلن تماما، كأن يجرأ مثقف على مساءلة مسؤول بمنصب شارون مثلا أو حتى بمقام بواب عمارة من عمارات المسؤولين الكرام، وذلك بتوجيه استفهام أشبه بإدانة محسومة شكلا ومضمونا أربكت أعتى دُهاة الاحتلال شراسة.
ماذا أضاف عرض هذا الوثائقي؟...
بالتأكيد قد أضاف الكثير، عندما بدأ بسؤال مشروع يحضرني بإلحاح لأجزم بأهمية هذا العرض دون ريب، إذ أنّ أصابع الاتهام لم تكن توجّه تجنّيا على شارون وحكومته الإسرائيلية، لتنصفَ شفهيّا وإن بدون إنصاف ملموس عمليّا، قضية فلسطين الوطن المحتل، وقضية اجتياح لبنان وصبرا وشاتيلا وقانا كمجازر منسية، وخاصّة أننا في طور التأهّب للعلاقات التطبيعية وربما الوديّة قريبا مع أبناء عمومتنا الألداء - سابقا- quot;إسرائيلquot;.
فقد قدّر لنا وسيكتب علينا تحويل كل ما يمت بصلة تجاه إسرائيل من مشاعر قديمة بوجوب رميها كالعدسات اللاصقة التي تنتهي صلاحيتها بعد الاستعمال المتكرر، ليتعذّر علينا مشاعر كنا نفاخر بجهرها عندما نقول لإسرائيل كم كرهناها ولعناها وشتمناها ونكرناها وتجاوزناها وتجاهلناها وهددناها تهديدات مؤجلة لاستفزازاتها العاجلة دائما، ليصدق المثل القائل /وكأنك يا بو زيد ما غزيت quot;،
فمن يعلم متى سنكتب quot;لإيلاف quot; من تل أبيب بدعوة من المؤسسات الإعلامية هناك، الحريصة على صورة مجتمعها، لنعود منها بإعجاب كبير نتشدّق بموجبه عن الديمقراطية المستحدثة في المنطقة، وبإعجاب أكبر للتأهيل العمراني لمجتمع بدأ من quot;الكيبوتسات quot;، ليصير الأهم اقتصاديا على مستوى العالم، ولنبق في نظره بتطبيع أو بدون تطبيع مجرد quot;غوييمquot;.
وربما نحن كذلك في نظر أنفسنا وفي نظر حكومتنا الرشيدة، إذ أنّ قرار الحرب يأتي
quot;تجاوزا quot; لإرادة الشعب تماما كما قرارات السلم ستأتي quot;تجاهلا quot; لإرادة الشعب بصفته آخر من يتكلم.
فقط الشعب الإسرائيلي في هذه المنطقة، هو الذي يستحق مبدأ الاستفتاء والمشاركة من قبل حكومته، الحريصة كل الحرص على رصد وجهة نظر الشارع الإسرائيلي تجاه مسألة الاتفاق مع ndash; سوريا -، حين تأخذ منه كل التعليقات سواء المؤيدة أو الرافضة لمسألة الاتفاق بعين الاحترام أولا والاعتبار من باب الواجب والالتزام المتبادل بين الإسرائيلي كمواطن، والمسؤول كمسؤول فعلا أمام الوطن والواجب. آفي مغرابي أنهى
الفيلم الوثائقي لبدأ رحلة المتاعب مع زوجته تامي ومع أفكاره ومع المتلقي ربما.
www.geocities.com/ghada_samman
gaidoushka@yahoo,com
التعليقات