السيرة الرسمية للداهية quot;هنري كيسنجرquot; أبرز ممثلي quot;السياسة الواقعيةquot; المعاصرة، ومستشار الأمن القومي الأمريكي ووزير الخارجيةrlm; الأشهر في مرحلة الحرب الباردة، صدرت أخيرا تحت عنوان quot; كيسنجر: 1973، السنة الحاسمة quot;، في 480 صفحة بتوقيع كاتبها quot; ألستير هورن quot;، الذي يعتبر أنّ سنة 1973 اجتمعت فيها أقدار كيسنجر، بحلوها ومرها: الحرب العربية ـ الإسرائيلية في السادس من أكتوبر، هزيمة أمريكا في فييتنام، الوفاق مع الإتحاد السوفييتي، فضيحة quot; ووترجيت quot; واستقالة الرئيس الأمريكي ريشارد نيكسون، حصوله علي جائزة نوبل للسلام، تولّي وزارة الخارجية الأمريكية.
أهم ما يميز هذه السيرة الرسمية، عن أغلب سير كيسنجر غير رسمية، ليست الوقائع والأحداث، أو بالأحري التاريخ في حد ذاته: الذي يكشف بجلاء عن ازدواجية شخصيته، وإنما تأثير quot; أفكار quot; كيسنجر وquot; نظرياته quot; حتي اليوم، علي السياسة الخارجية الأمريكية، والسياسة الداخلية للعالم، في الوقت نفسه.
فقد أعلن quot; كيسنجر quot; في العام 1979 بأن الألفية الثالثة بدأت بالفعل، وقال، قبل ثلاثين سنة من الآن: أن الصراعات في المستقبل ستكون بين الهويات والأديان، خاصة بعد نجاح ثورة الإمام الخوميني في إيران، وصعود نجم المحافظين في انجلترا بزعامة مارجريت تاتشر quot; المرأة الحديدية quot;، وتحقيق السلام بين مصر واسرائيل بموجب معاهدة quot;كامب ديفيدquot;. وفي أعقاب الحادي عشر من سبتمير عام 2001 كتب مقالين متتالين نعي فيهما موت quot; الدولة القومية quot; التي ولدت رسميا بموجب معاهدة ويست فاليا عامrlm;1648. ورأي أن العالم دخل مرحلة جديدة بظهور التنظيمات المستقلة عن الدولة والقادرة علي تهديد الأمن المحلي والعالميrlm;، مما يعني تآكل مفهوم الدولة، ونهاية التصور التقليدي لمفهوم السيادة الوطنيةrlm;، وهو ما يتطلب: تبني نظرية quot; الحرب الاستباقية quot; وquot; تغيير القانون الدولي quot; وquot; العودة إلي التسلح من جديد quot;.rlm;
هذه الأفكار كانت صادمة للشريك التاريخي (أوروبا)، وظل الخلاف المكتوم بين ضفتي الأطلنطي، يطفو تارة ويخبو تارة أخري. ففي مقابل quot; الحرب الاستباقية quot;، أقترحت أوروبا quot; الديبلوماسية الوقائية quot;، علي لسان quot; جان ايليا سون quot; وزير خارجية السويد الأسبق، طالما أن انفجار الصراعات أصبح السمة المميزة لعالم اليوم، مما يتطلب تطوير وتفعيل quot; ثقافة الوقاية quot; التي تلتقط النذر الأولي للإنفجارات المتوقعة. وهو ما قابله quot; كيسنجر quot; باستخفاف، وبرر ذلك بأن quot; أوروبا ليست ذات شأن عسكري لذا فهي تركز علي الدبلوماسية فقط كحل للنزاعات quot;.
وجهة نظر الأوروبيين كانت أوسع وأعمق، لأن quot; الجوع والظلم quot; هما العدو الرئيسي للعالم أجمع، وليس للغرب وحده، والجوع هنا يرمز إلي انعدام العدالة الاقتصاديةrlm;، أما الظلم فيقصد به الاستبداد السياسي الداخلي والدولي في وقت واحدrlm;، فضلا عن أن الجوع والظلم هما معمل تفريخ للإرهاب والإرهابيينrlm;. من هنا فإن الحرب علي الإرهاب لا يمكن لأمريكا ان تكسبها، علي الرغم من قوتها الساحقة؟... لأن quot; الغضب البارد quot; يتسلل من الحواجز الأمنية والجمركية، ولا يظهر علي كاميرات المراقبة الألكترونية عند تفتيش الحقائب، وبالتالي لا تصلح معه الحرب الاستباقية. rlm;
أول من رفع شعار quot; الجوع نفسه حرب quot; المستشار الألماني الراحل quot; فيلي برانت quot; (1913 ndash; 1992)، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1971 تقديرا لسياسته نحو الشرق، rlm;وقد تنبأ بأن الصراع بين الشرق والغرب سيتحول الي صراع بين الشمال الغني والجنوب الفقيرrlm;، وطالب مبكرا بنظام اقتصادي عالمي جديدrlm;، يقوم علي مبدأ العدالة بين الأغنياء والفقراءrlm;,rlm; كما طالب بquot; سياسة داخلية للعالم quot;، وبمشروع quot; مارشال quot; آخر لدول الجنوب.
هذا الشعار وتلك الدعوة، هما محور كتاب جديد بالغ الأهمية، ظهر بالتزامن مع السيرة الرسمية لكيسنجر تقريبا، تحت عنوان quot; كراهية الغرب quot; لعالم الاجتماع السويسري quot; جان تسيجلر quot; الذي نال عنه مؤخرا جائزة حقوق الإنسان العالمية في فرع الأدب. وتسيجلر هو أحد أصحاب الضمائر الحية في الغرب اليوم، شغل منصب (ممثل الأمم المتحدة الخاص لحقوق الغذاء)، وهو يعمل حاليا مستشارا لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، وقد وصف أزمة الغذاء التي يعاني منها العديد من سكان العالم (مليار نسمة) بانها عملية quot; قتل جماعي بصمت quot; وبأنها quot; جريمة في حق الإنسانية quot;، مؤكدا أن تحالف المنظمات الدولية والرأسمالية المتوحشة أدي إلي انتشار المجاعات في العالم، وإلي تلوث البيئة وتغيير المناخ، من أجل انتاج الوقود الحيوي ولو علي حساب موت 100 ألف انسان يوميا من الجوع وتداعياته، وهو ما يهدد السلام الكوني في مقتل.
ورغم أن الأزمة الاقتصادية العالمية قد برهنت علي صحة اطروحات الأوروبيين من quot; فيلي برانت quot; إلي quot; تسيجلر quot; وما بينهما، فضلا عن أنها أعادت quot; الدولة quot; من جديد إلي الواجهة، علي عكس أفولها كما روج كيسنجر وآخرون، حيث أثيرت العديد من القضايا الخاصة بمستقبل الرأسمالية واقتصاد السوق وتدخل الدولة الحارسة مرة أخرى لضبط السوق. فإن تأكيد quot; كيسنجر quot; علي أن حروب المستقبل ستدار بين الهويات والأديان، مايزال ساري المفعول وطويل المدي. إن إلحاح إسرائيل لمفهوم quot; الدولة الدينية quot; (اليهودية) هذه الأيام، كنوع من التهرب والألتفاف علي استحقاقات السلام، يعني إلغاء القرار رقم 181 الذي اصدرته الأمم المتحدة عام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين بين الفلسطينيين واليهود، كما يلغي القرار رقم 194 لسنة 1948 الذي يقضي بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلي أرضهم، علي اعتبار أن قدسية الدولة تستلزم أن تتطهر من أي عرق أو ديانة أخري غير يهودية، وهو ما يحفز الأصوليات الدينية الأخري في المنطقة علي إقامة دول دينية بالمثل، تنبذ الأقليات والديانات المختلفة والملل والنحل في الشرق الأوسط، الذي يتشكل من أكبر فسيفساء (أثنية وعرقية ودينية) لتبدأ مرحلة دموية جديدة من الصراع في المنطقة، والعالم أيضا.


[email protected]