يصعب على اللبنانيين الإيمان بأنهم افقدوا بلدهم معظم قابليته للاستخدام الخارجي. يصعب عليهم ايضاً التصديق ان البلد الذي فقد خيرة ابناءه في حروب خارجية وداخلية، بعضها تام العبثية، لم يعد يحسن التدليل على دم بنيه في سوق السياسات الدولية. هذا البلد الذي يقع على حدود كثيرة، شرقاً وغرباً، عربياً واقليمياً ودولياً، لم يعد قادراً على اللعب بنار الآخرين. والأرجح انه لم يعد قادراً على اشعال نار كبيرة يمكن ملاحظة لهيبها من البعيد. فليترك اللبنانيون يدارون شؤونهم بالتي هي احسن. لم يعد لبنان محاذياً للقضايا الكبيرة التي تعصف في المنطقة. لقد استعمل البلد طويلاً بوصفه ثغراً ملتهباً من ثغور الصراع العربي ndash; الإسرائيلي. استعمل كذلك زمناً احلك بوصفه ثغراً من ثغور المناوشة الإيرانية ndash; الأميركية. واستعمل ايضاً قديماً ومؤخراً بوصفه حلقة اولى من حلقات الصراع بين شرق وغرب. وعند كل استعمال كان البلد يثبت أنه قادر على العض على جروحه ومداراة آلامه، والتصرف كما لو انه فرقة مقاتلة في جبهات الآخرين الامامية. لكنه اليوم يبدو كجندي احتياط خدم في الجبهة طويلاً ولم يعد يعرف طريق العودة إلى الحياة المدنية. لكنه في الحروب شاخ وتعب ولم يعد الجندي الامثل الذي يمكنه ان ينفذ اصعب المهمات واشدها قذارة. هل يذكر العراقيون او الجزائريون ان الذبح الذي تبادلوا ويلاته فيما بينهم كان له مثيله في لبنان السبعينات والثمانينات؟ هل يذكر الطالبانيون والقاعديون ان السيارات المفخخة والرجال والنساء المفخخين في التسعينات وما بعدها كان لها مثيلها ايضاً في لبنان الثمانينات وما قبل ذلك؟ وهل يذكر المقاومون الصامدون حروب المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل وصراعها مع سوريا منذ ستينات القرن الماضي وحتى بدايات ثمانيناته؟ هل يذكرون كيف كتبت الصحافة العربية عن معارك كفرشوبا في مطلع السبعينات، وعن quot;الاستبسال الاسطوريquot; في معارك راشيا الفخار والهبارية في منتصف سبعينات القرن الماضي؟ هذا وفي وسعنا ان نذكر حديث الانتصارات في حروب 1978 و1982 وحصار بيروت واحتلالها بعد مقاومة بطولية دامت اكثر من ثلاثة شهور؟ طبعاً لا يذكرون. اللبنانيون انفسهم لا يذكرون، ذلك ان المحتفل بنصر تموز العام 2006 بوصفه نصراً غير مسبوق لا يستطيع ان يتذكر الانتصارات غير المسبوقة ايضاً التي حدثت سابقاً، وإلا لعد نصره مسبوقاً، ولاعتبر وفكر ان مثل هذه الانتصارات لم يعقبها غير الهزائم في ما مضى، والله أعلم.
خسر لبنان فتوته ولم يعد دمه مغرياً في سوق السياسات الدولية. اليوم ثمة رغبة دولية في جعل البلد يفهم انه لم يعد مرتزقاً مرغوباً، لأن ليس ثمة حروب بعد على الطريقة اللبنانية قد تكون مفيدة لأي طرف من اطراف الجوار والقوى الدولية على حد سواء. لبنان الديموقراطي، الذي تغنى بوش بفضائل ديموقراطيته، اثبت انه لم يكن ديموقراطياً، ولبنان المقاتل الذي تغنى الإمام خامنئي بقدرته على هزيمة أميركا اثبت انه لا ينجح سوى بهزيمة نفسه، ولبنان الازدهار والمعجزة الاقتصادية لم يعد يقنع أحداً لا شرقاً ولا غرباً، بعدما فشل طوال عقود في زيادة ساعات التغذية بالتيار الكهربائي في بيروت والمناطق. والنتيجة الواضحة لكل من يريد ان ينظر جيداً. اللبنانيون اليوم يخوضون حروبهم الصغيرة كما لو انهم ما زالوا جنوداً في حروب خارجية تتغذى من دمهم، في حين ان العالم من حولهم تغير كثيراً إلى حد ان دماءهم اصبحت منذ زمن طويل لا تذهب إلا هدراً.