المخضرمون في السياسة والتاريخ ينبئونك دائماً ان اخطر الأوقات هي تلك التي تسبق الحلول الكبرى. في مثل هذه الأوقات، ثمة لاعبون كثر يؤثرون لعب أوراقهم بقسوة. ويكون المؤدى غالباً حروب صغيرة في رقعتها وكبيرة في استهدافاتها. الأرجح ان ستاتيكو ما يتحضر للإقامة مديداً في منطقة الشرق الاوسط. ستاتيكو يستند إلى ما رست عليه الحروب والتحركات الدبلوماسية الصغيرة والكبيرة، وما أسفرت عنه من نتائج. أميركا في العراق وافغانستان، اسرائيل وتاريخ حروبها مع العرب وغير العرب، منذ 1936 وحتى اليوم، ايران وأدوارها من لبنان إلى اليمن، مروراً بغزة ودمشق وبعض الخليج العربي، تركيا وعلاقاتها بجوارها، مصر والمملكة العربية السعودية. نتائج هذه الحروب والدبلوماسيات كلها توضع على الطاولة في لحظة استحقاق تاريخي. من لعب قد لعب ومن فاز قد فاز، ولم يعد ثمة وقت للاستدراك.
ليس خافياً ان لبنان الذي نذر نفسه على الدوام لأداء دور الكمين المتقدم في حروب متعددة الهويات والاتجاهات بات متروكاً لمصيره الذي يتحكم فيه اليوم بضع قوى سياسية ولد معظمها من رحم الحرب الأهلية التي أكلت أكثر من نصف عمر هذا البلد. قوى حروب أهلية عاطلة عن العمل، لكن عطالتها لا تمنعها من الإصرار على البقاء في مواقعها التي شغلتها وأشغلت البلد من خلالها. لكن ما يبدو راجحاً إن لم يكن مؤكداً ان لبنان اصبح من دون وظائف اقليمية تقريباً. وان قواه الأهلية المسلحة والمحاربة تنتظر التغيرات التي ستطرأ في المنطقة علها تجد لها فيها منفذاً ينقذها من الاحتضار البطيء. في الأثناء ثمة محاولة لإيقاف البلد وتعطيل الحياة السياسية والدستورية فيه، بأمل ان يستطيع قادة القوى الأهلية المتحاربة في اللحظة المناسبة استعادة زمام المبادرة ومحاولة الهيمنة على مقدرات البلد كافة.
والحق ان هذا اللعب يشبه اللعب بالنار، بالغ الخطورة وغير مضمون النتائج. فحين يصبح البلد كله عارياً دستورياً وسياسياً لا يبقى والحق يقال منتصباً وحياً وقد يؤسف عليه إلا الكيانات الطائفية نفسها. والأرجح ان ضعف دولة لبنان وهزالها وقربها من الاحتضار يجعل من دولة حزب الله في جنوب لبنان وبعض بقاعه وضاحية بيروت الجنوبية، دولة تستحق الدفاع عنها والخوف عليها. ولئن كان حزب الله دائماً يتصرف مقاوماً كما لو ان المناطق التي يحكم سيطرته عليها هي مناطق درجة ثانية، فيمون على أهلها شيباً وشباناً مستسهلاً تعريضها لأخطار الحروب الإسرائيلية والدمار الذي يلحق بها نتيجة هذه الحروب، مفترضاً ان الجنوب وأهله إنما يقاومون دفاعاً عن مناطقهم أولاً ودفاعاً عن البلد برمته ثانياً، ودفاعاً عن الامة الإسلامية والعربية استطراداً. وعلى سلم الدفاعات هذا يمكن لأهل الجنوب ان يقدموا ابلغ تضحياتهم ليسلم البلد وتسلم الأمة ولينتصر البلد والأمة في وقت واحد. لكن مشهد الاحتضار المرير الذي يصيب لبنان السياسي والدستوري اليوم، يكاد يجعل من البلد أثراً بعد عين من جهة أولى لكنه من جهة ثانية يجعل من محمية حزب الله في الجنوب وبعض البقاع وضاحية بيروت آخر الأبنية المتماسكة في الجمهورية اللبنانية. ولأنها آخر الابنية المتماسكة فقد يصبح التفريط بها او تعريضها للخطر بالغ الخطورة بالنسبة لحزب الله وعموم اللبنانيين.
في الوقت الدولي والإقليمي الضائع لا يبدو ان القوى السياسية في لبنان تهتم لنجاة البلد بأقل الخسائر. لكنها أيضاً قد لا تكون متيقظة إلى ان تعرض البلد، سياسة ودستوراً وبنية دولة، لمثل هذه الخسارة، لن يجعل فيدراليات الطوائف قادرة على الدفاع عن محمياتها أمام أطماع الخوارج. والخوارج في اللحظات المفصلية ليسوا أعداءنا التاريخيين فقط.