من حق اللبنانيين ان يستعدوا للاحتفال. الحكومة تكاد تولد أخيراً. لبنان بلد نادر المثيل. فقط في لبنان يمكن للناس ان يحتفلوا بولادة حكوماتهم. لأن وجود سلطة من اي نوع في لبنان ليس من تحصيل الحواصل. والبلد الذي تكون فيه ولادة السلطة التنفيذية بهذا العسر يستحق ان يكون نادراً. بل أن السعي للوصول إلى السلطة في لبنان اصبح من بعض غرائبه. كل مرشح يطمح لتولي هذه الوزارة دون تلك: ثمة في جعب المرشحين برامج لإصلاح هذه الوزارة او تلك. التربية في لبنان في حال يرثى لها، القضاء ايضاً، الاتصالات، الكهرباء، المياه، الإعلام، الثقافة والعليم العالي. ما الذي يبقى؟ لا شيء تقريباً. لكن اللاشيء لا يضير لبنان، ولا يحوله من بلد الإشعاع والنور، على ما يحلو لمادحيه وصفه، إلى بلد الأزمات التي لا تنتهي.
انتهت ازمة، وسيستأنف اللبنانيون سعيهم لاستيلاد أزمة اخرى. ذلك ان ما يولد في لبنان فعلاً هو الازمات وليس الحكومات. على اي حال، فلنقل للبنانيين: مبروك لكم هذا المولود. لن يضير احداً ان يبارك للبنانيين في ما لا يوجب المباركة. بلد صغير ونجح في تشكيل حكومته او يكاد. فلنرفع القبعات احتراماً. انتهت أزمة وستعقبها أزمات، مع ذلك تتناقش القوى السياسية في الحقائب، هذا يريد حقيبة التربية، لأنه يملك مشروعاً لإصلاحها، وذاك يريد حقيبة الطاقة وآخر يريد العدل لأنه يملك خطة لإنقاذها. لكن الثابت اننا في الشهور التي فصلت بين الانتخابات النيابية التي جرت في يونيو الماضي وشبه الاتفاق على التشكيلة الحكومية خسر لبنان الكثير من دوره ومركزه. اقله على المستوى الصحافي والإعلامي. فجأة ومن دون مقدمات اصيبت صحافة لبنان بعسر شديد. والحديث عن عسر يصيب الصحافة ليس حديثاً فرعياً في لبنان. انه ضرب لبعض آخر مقومات وجود هذا البلد، وتعطيل لآخر وظائفه الإقليمية. والحق ان انهيار هذه الوظيفة التي اداها لبنان طوال عقود ليست شأناً تفصيلياً او يمكن المرور عليه بوصفه من الازمات التي تطاول مؤسسات إعلامية من هنا وهناك. على حين غرة بدأت المؤسسات الإعلامية اللبنانية تتحدث عن أزمات مالية. وهو حديث خادع على الأغلب. إذ لم تكن الصحافة اللبنانية يوماً صحافة تستطيع العيش من دون التمويل السياسي، خصوصاً التمويل الإقليمي. وتالياً ليس ثمة ما يمكن إضافته حول الأزمات المالية في المجال الإعلامي البحت. وعلى الباحثين عن اسباب الازمات الصحافية في لبنان ان يفتشوا جيداً في ما تبقى من دور للبلد ومن وزن له على مستوى المنطقة. لقد انهى البلد حروبه وحروب الآخرين كلها، لكنه كجندي مهجور يجد نفسه اليوم من دون تمويل ولا سند ولا مهمة. مع ذلك لم يتورع السياسيون اللبنانيون في اطالة امد آخر أزماتهم قدر الإمكان. بحثوا طويلاً واختلفوا كثيراً، وفي النتيجة، وصل الوزراء إلى وزارات منهكة وإدارات تحتاج معجزات لإنقاذها من الشلل. وحين تكون الإدارات الرسمية عاجزة على هذا النحو والقطاع الخاص يعاني ما يعانيه من ازمات تمويل وضمور أدوار، تظهر الصورة في اكثر تجلياتها وضوحاً: لقد اصبح الاجتماع اللبناني مقصراً وعاجزاً كدولته، ولم يعد ثمة ما يستطيع اهل البلد انقاذه سوى الرغبة في مصارعة مصاعب الحياة. حتى صورة اللبناني التي كانت ذات يوم فاتنة ومثار اعجاب من حوله فقدت رونقها وبهاءها. لبنان اليوم يستعد لالتقاط الصورة التذكارية للحكومة التي ولدت بعد عسر شديد. في وسع اي مواطن بلغ سيل غصبه زباه، وهم كثرة اللبنانيين الساحقة، ان يسجل تحت الصورة ما يلي: ولدت هذه الحكومة في الشهر ما قبل الأخير من هذا العام، وفي الفصل ما قبل الأخير من احتضار البلد. والحاضرون على احتضاره كل الذين تباكوا عليه على مدى عقود. إنها خطبة الهندي الأحمر الأخيرة، وآخر حكوماته ربما.
- آخر تحديث :
التعليقات