الجريمة المفزعة التي اقترفتها عصابة داعش بإحراق الطيار الأردني لا يمكن المرور عليها أو التقليل من فظاعتها بأي حال من الأحوال فهي مشعر لنا بحجم التعبئة الأيديولوجية الموغلة في معاداة الإنسانية و المتنكرة لأبسط الأخلاق والكارهة للحياة.
داعش لم تأت من فراغ، فهي تتغذى من موروث ثقافي صاغته أجيال سابقة في ظروف سياسية موبوءة بالصراعات والفتن فخرج منتج فقهي مشوه ينظر إلى العالم كله بعدوانية ويرى الأصل في العلاقات الإنسانية الحرب لا السلام، ثم أضفي على هذا الموروث قداسةً حتى ظن أتباعه أنه من عند الله وما هو من عند الله، وهذا يؤكد لنا مرةً أخرى أن سلطان الثقافة أقوى من سلطان الدين، وأن أفظع الجرائم يمكن اقترافها بتبرير ديني مهما كانت هذه الجرائم منفصلةً عن المعاني الأساسية التي جاء الدين ليرسخها في حياة البشر مثل العدل والرحمة للعالمين.
يرى فريق من الناس أن داعش هي صنيعة المخابرات الغربية؛ ربما لكن ليست هذه القضية الأساسية، فداعش ليست سوى التجلي التقني للتربة التي أنبتتها، وأعتى أجهزة المخابرات العالمية لا يمكن أن تنجح في زراعة جسم غريب في أحد المجتمعات ما لم يكن هذا المجتمع مهيئاً لقبوله، فعمل المخابرات لا يزيد عن استثمار القابليات النفسية والثقافية الموجودة فعلاً، وإذا كان المجتمع محصناً ضد أفكار العنف والتطرف فإن كل محاولات الاختراق سيصدها جدار الوعي الجمعي.
إذا كانت داعش فعلاً اختراقاً استخبارياً لمجتمعاتنا، فلماذا يوجد بيننا من يدافع عنها ويبرر لها! إن تبرير أي عمل يعني الاستعداد المبدئي لفعله، وتبقى المسألة بعد ذلك مسألة وقت وإمكانيات، لذلك فنحن نحاكم الثقافة التي تحتضن داعش قبل أن نحاكم التنظيم، نعم قد يقف وراء صناعة تنظيم أياد مشبوهة، لكن الثقافة الحاضنة لا يمكن أن تكون إلا من عند أنفسنا.
المخابرات الغربية ليست بريئةً تماماً، وربما يكون لها دور، لكن العالم يستثمر في تخلفنا ويوجهه بما يخدم مصالحه ويطيل أمد تفككنا وتشرذمنا.
في الجزء الآخر من الصورة فإن نمو داعش يرتبط وثيقاً بشيوع الإحباط في نفوس الشباب العربي بعد عقود من ممارسات العنف والاستبداد والقهر من الأنظمة العربية وبعد الانقلاب على تجربة التغيير السلمي في دول الربيع العربي، مما رسخ قناعةً في نفوس قطاع كبير من الشباب بانسداد الأفق أمام أي محاولة تغيير سلمي هادئة، وبأنه لا مخرج من واقع القهر والإحباط إلا بالتوجه إلى العنف فكان هذا الفكر المتفجر تطرفاً وعنفاً وعدائيةً.
لقد شهد عام 2011 في ذروة الربيع العربي تراجعاً ملحوظاً للفكر العنفي في ضوء مشهد ميادين الاعتصام السلمي وقدرة الشباب على تحقيق نتائج ملموسة بالوسائل الناعمة، لكن انتكاسة الثورات بعد عامين والانقلاب على خيارات الشعوب أدى من جديد إلى نمو الأفكار المتطرفة التي تغذت منها داعش
لست من هواة تحميل العالم مسئولية أزماتنا الداخلية، لكن من الصعب تجاوز الدور الذي تتحمله أمريكا تحديداً في دعم الانقلاب على الربيع العربي وما نتج عن ذلك من سد نوافذ الأمل في نفوس الشباب وتعزيز الإحباط والشعور بالعجز عن التغيير بالوسائل السلمية.
إن خير ما يمكن أن نواجه به داعش هو تعزيز قناعات الشباب بالطرق السلمية عبر خلق نموذج ناجح للربيع العربي يعيد الثقة بالديمقراطية ويضع حداً للشعور بالقهر والإحباط الذي يجتاح الشباب العربي، وحين يشعر الشباب أن بلادهم صارت ملكاً لهم وليس لقوى الاستبداد والفساد الضاربة بجذورها، وأنهم ليسوا غرباء في أوطانهم بل يمكنهم المساهمة الفاعلة في الإصلاح والنهضة فإن المساحات التي تنمو فيها أفكار العنف في عقولهم ستضمر إلى حد بعيد.
داعش تمثل ذروة البشاعة والإجرام ولا يمكن تجميل وجهها أو التخفيف من قبحها تحت أية ذرائع، لكن إذا كان العالم منزعجاً حقاً منها فإن الطريق الأكثر جذريةً للقضاء عليها هو الاستثمار في الديمقراطية والانحياز لخيارات الشعوب، فهذا أجدى من الاستثمار في الحروب وتجارة السلاح.
كاتب فلسطيني