يُمثّل "عام الفيل" حدثا مهما في تاريخ ما قبل الإسلام وما بعده، إذ هناك سورة كاملة في القرآن خاصة به، كما أن السيرة النبوية تتحدث عن ولادة الرسول في "عام الفيل"، ثم هناك كمية من القصص والروايات مبثوثة في كتب التراث الإسلامي حول أبرهة الحبشي وغزوه الفاشل لمكة.

وعلى الرغم من ارتباط صورة الفيل بشخصية أبرهة في التراث الديني والأدبي لدى العرب إلا أن هنالك إشكاليات عديدة تتعلق بتاريخية هذه القصة ومدى ارتباطها بالقرآن.

لقد أثارت نتائج التنقيب الأثري خلال القرن الماضي لاسيما في وسط وجنوب وغرب الجزيرة العربية نقاشات عديدة بين العلماء والباحثين حول تاريخية أبرهة وحقيقة غزوه المفترض لمكة. ليس هذا وحسب، ذلك أن نتائج التنقيب التي لاتزال مستمرة تكشف في بعضها عن تاريخ مغاير لما هو مدون في كتب التراث الإسلامي، ويمكن القول إنها بعد التمحيص تحتوي على مزيج من الحقائق التاريخية والعناصر الأسطورية والآثار الدينية.

في هذا المقال، سوف نتعمق في قصة أصحاب الفيل كما هي موضحة في القرآن، ودراسة السياق التاريخي والجوانب الأسطورية المحيطة ب "عام الفيل".

خلفية تاريخية
لفهم "عام الفيل"، يجب علينا أولاً استكشاف السياق التاريخي لشبه الجزيرة العربية في أوائل القرن السادس الميلادي. في ذلك الوقت، كانت اليمن منطقة بارزة يحكمها الملك أبرهة، وهو جنرال قدم مع الحملة العسكرية الأثيوبية للمملكة أكسوم، تلك المملكة القديمة في إثيوبيا الشمالية، وتحديدًا في إقليم تكرينيا الذي يُشكل اليوم ما يُعرف بإريتريا. لقّب حكام أكسوم أنفسهم بـ"ملك الملوك"، ملك أكسوم وحمْيَر وريدان وصالحين وتسيامو وبيجه وكوش. استمرت مملكة الأكسوميون نحو العام 80 قبل الميلاد إلى العام 825 ميلادي. تمركزت الحكومة في مدينة أكسوم، ونمت من القرن الرابع قبل الميلاد تقريبًا ليبرز شأنها بحلول القرن الأول ميلادي. اذ أصبحت أكسوم لاعبًا رئيسًا فيما يتعلق بطرق التجارة التي تصل الإمبراطورية الرومانية والهند القديمة. كما سهّل حكام أكسوم عملية التجارة عبر سكّ عملتهم الأكسومية الخاصة، ففرضت المملكة هيمنتها على مملكة كوش التي بدأت بالانحدار. تدخلت أكسوم أيضًا سياسيًا في شؤون الممالك التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية، ولاحقًا، وسّعت مجال حكمها وهيمنتها لتشمل المنطقة بأكملها عبر غزو مملكة حمير.

هناك خلاف حول الأسباب التي دعت الأكسوميين لغزو اليمن، ومن تلك الأسباب ردع القرصنة الحميرية في جنوب البحر الأحمر، بيد أن أحد الروايات الأكثر رواجا هي أن أكسوم تدخلت تحت ستار الدفاع عن مسيحيي نجران من اضطهاد عشيرة الحميريين الحاكمة، والتي كانت تتكون أساسًا من اليهود، ووضعت حدًا لصعود النظام الملكي الحميري. وقد نجحت في هذا المسعى بنجاح كبير، مما يشير إلى بداية ما يقرب من 50 عامًا من الحكم الإثيوبي على شبه الجزيرة العربية (حوالي 525-572).

كان أبرهة، مؤثرًا بشكل خاص (535-570) في أحداث شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وكانت له معارك عسكرية واتصالات بالإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وقد نجح في التحول من وال تابع لأكسوم إلى ملك مستقل.

السياق القرآني
تم ذكر قصة "عام الفيل" باختصار في القرآن، في موضع واحد هو سورة الفيل. وفقًا للقرآن، فإن أصحاب الفيل قوم عصاة، تمت معاقبتهم وإفشال خطتهم بأعجوبة من خلال التدخل الإلهي، عبر سرب من الطيور، المعروفة باسم "أبابيل"، رشقت الغزاة بنوع من الحجارة وهزمتهم.

تحمل قصة أبرهة وسنة الفيل آثارًا دينية ورمزية مهمة بالنسبة للمسلمين، تمثل الحماية الإلهية للكعبة المشرفة، أقدس موقع في الإسلام.
بالإضافة إلى ذلك، يوضح مفهوم التوكل، أو الاتكال على الله، في مواجهة الشدائد. في سياق أوسع، يعتبر "عام الفيل" بمثابة تذكير بأهمية مكة في السرد التاريخي والديني لشبه الجزيرة العربية. إنه يعزز فكرة التقليد النبوي، ويستحضر الإيمان بسيادة الإله وقدرته المطلقة. علاوة على ذلك، ترتبط أسطورة "عام الفيل" بالنسيج الغني للأساطير العربية ، مما يوفر لمحة مثيرة للاهتمام عن ثقافة ما قبل الإسلام.

مشكلات السيرة
ليس هناك إذا أي تفصيل في القرآن حول ماهية القصة، فلا ذكر لجيش، أو لأبرهة، أو للهدف الذي من أجله تمت معاقبة أصحاب الفيل. اللافت للانتباه، أن هذه التفاصيل ترد أولا في كتب السيرة النبوية الأولى، فيكون ابن إسحاق بذلك أول من دون هذه القصة (704-769)، ولكن السيرة التي كتبها مفقودة، وإنما انتشرت آراءه عبر عدد من الكتاب في القرن التاسع الميلادي.
إن ابن هشام (توفي 833) الذي دون السيرة اعترف في مقدمته بأنه حذف وعدل الكثير من عناصر سيرة ابن اسحاق لأسباب سياسية وعقدية، ولذلك من الصعوبة معرفة من أين ومتى بدء الربط بين أبرهة وسورة الفيل.
أما في علوم التفسير المتأخرة نسبياً، فهي كبيرة الشبه بالرواية التي يرويها ابن إسحاق، فتفسير مقاتل ابن سليمان (توفي 768) على افتراض صحة نسبة الكتاب له، يحوي تفاصيل أقل بل ومغايرة. ففي سيرة ابن هشام يقوم أحد العرب بتدنيس كعبة أبرهة، التي بناها لتحويل الناس عن الحج إلى مكة بالحجاز، بعد ذلك يسعى أبرهة لهدم الكعبة، ولكنه يجد ممانعة من ذو نفر، الذي قاد جيشا من أشراف اليمن لمحاولة صد أبرهة ثم يقع في الأسر، لكن قريش "الوثنية" التي ترعى البيت المقدس هربت إلى الجبال، بل إن رئيس القرشيين رفض الدفاع عنها، وعندما يسعى لمقابلة الزعيم أبرهة، فإنه لا يكلف نفسه أن يطالب بوقف الهجوم، بل كان همه المطالبة بماشيته وإبله.

المثير للانتباه هنا، أن التدخل الإلهي حسب رواة السيرة حدث بعد أن استهض القرشيون "الوثنيون" الإلهة ضد زعيم نصراني موحد. أما كتب التفسير مثل كتاب مقاتل، فإنها تنسب سبب الحملة العسكرية لأبرهة إلى حريق نشب في بيعة للنصارى بعد أن نسي بعض العرب النار التي أوقدوها للشواء، وأن القبائل اليمنية هي من حرضت أبرهة على الغزو.

هذا التناقض الواضح في روايات السيرة، ثم بعد ذلك في كتب التفسير والصحاح، لم يفت على المستشرق فرانز روزنثال (1964) في مقالته "الموروث الكتابي وأثره على التاريخ الإسلامي"، والذي يؤكد على أن روايات السيرة الأولى تأثرت بمرويات منقولة من العهدين القديم والجديد، بل ومن التراث التفسيري لكل منهما، وهنا يظهر دور يهود اليمن مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه، في نقل ذلك التراث بوصفه تفسيرا لما يرد في القرآن، ولأجل ذلك فإن قصة الفيل وتوابعها تعود إلى رواية وهب بن منبه عن تاريخ اليمن في عهد الأحباش، ثم النبؤات التي تقضي بمجيئ نبي يؤسس لمملكة آخر الزمان.

في تفسيره المسمى "جامع البيان" وهو تفسير سني شامل ولكن متأخر، نجد الطبرى (توفي 923) بعمله الموسوعي يقوم بمحاولة جمع توفيقية بين تلك المصادر المتناقضة، ولكن لأول مرة يمكننا ملاحظة تأثير المصادر اليونانية والسريانية على مجريات القصة، بحيث يتوسع الطبري في تقديم عناصر تاريخية عن اليمن منقولة من مصادر أجنبية إلى الرواية الإسلامية – مع ملاحظة عدم إشارته لها، بحيث يتوهم القارئ بأن ما تم نقله هو من صميم التراث الإسلامي.
أيضا، يضيف الطبري ملاحظة مهمة عن معاني الكلمات الواردة في السور بحسب المفسرين، ولكن بطريقته يشير إلى معاني ينسبها لرأي أحد لم يسمه، فيقول قال أحدهم، وذلك عندما يورد رأيا بشأن كلمة "أبابيل"، وكونها كلمة أجنبية مفردها "أبيل"، وكذلك عند مناقشته لكلمة "سجيل"، حيث يورد أنها أعجمية فارسية مكونة من شقين أحدهما "سنج" وتعني الحصى، و"جيل" وتعني الطين.

لقد ناقش آرثر جيفري (1938) في كتابه الشهير "معجم الكلمات الأجنبية في القرآن"، كلمة "أبابيل"، فهناك من يرى أنها معربة من الفارسية وتعني مرض الحصبة، وهذا يتوافق مع بعض الرواة الذين أشاروا إلى الجدري الذي أصاب أصحاب الفيل، وهناك من يرى أنها تصحيف لعبارة تير بابيل، أي سهام بابل، وهذا الرأي يوحي بأن سورة الفيل ربما تتحدث عن أحداث معجزة سابقة لعصر مكة وقريش بقرون.

الدقة التاريخية مقابل الأساطير

يعد تقاطع الدقة التاريخية والعناصر الأسطورية موضوعًا حساسًا عند مناقشة عام الفيل. يجادل بعض المؤرخين مثل م. ج. كيستر (1972) و روبن (2010) بأن غزو أبرهة الفعلي لمكة ربما حدث بالفعل، وإن كان على نطاق أصغر، دون التدخل الإعجازي من الطيور. يقترحون أن الرواية القرآنية ربما تكون قد زينت الأحداث للتأكيد على سمو الكعبة المشرفة والحماية الممنوحة لها.

من ناحية أخرى، يعتبر سيدني سيمث (1954) و روبرت سايمون (1989) ودانيال بيك (1956) أن قصة عام الفيل غارقة في الرمزية الأسطورية. إنهم يعتبرونها رواية تستخدم للتأكيد على عدم أهمية القوة البشرية في مواجهة السلطة الإلهية، وإبراز سمو الله وقدسية مكة.

من المهم أن نلاحظ أن عهد أبرهة، وحدث عام الفيل يسبقان ميلاد النبي وظهور الإسلام، ولكن المسافة الزمنية بينهما لم تكن قريبة كما تزعم المصادر الإسلامية، بل إن موقع المعركة وأطرافها القبلية وتاريخها مختلفة تماما عما يرد في كتب السيرة والتراث، ويمكن رؤية حملات أبرهة العسكرية في إطار صراع نفوذ بين الإمبراطوريات، ومحاولة أبرهة تقليص نفوذ الحيرة على بعض القبائل.

في عام 1951 ميلادية، قام كل من جاك ريكمانز وعبد الله فيلبي باكتشاف نقش سبئي يؤرخ لانتصارات أبرهة في موقع ميرغان الأثري بتثليث - جنوب المملكة العربية السعودية، وقد تعرض النقش لعدد من القراءات عبر العقود الماضية، وفيما يلي قراءة عامة للنقش: "بقوة الرحمن ومسيحه الملك أبرهة زيبمان ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات (اليمن) وقبائلهم في الجبال والسواحل، سطر هذا النقش عندما غزا قبيلة معد في غزوة الربيع في شهر ذو الثابة عندما ثار كل قبائل بنى عامر وعين الملك (القائد) أبي جبر مع (قبيلة) على (القائد) بشر بن حصن مع (قبيلة) سعد (وقبيلة) مراد وحضروا أمام الجيش ضد بنى عامر وجهت كندة وعلى في وادي ذو مرخ ومراد وسعد في وادي على طريق تربنو ذبحوا وأسروا وغنموا بوفرة وحارب الملك في حلبن (حلبان) واقترب كظل معد وأخذ أسرى، وبعد ذلك فوضوا قبيلة معد عمرو بن المنذر في الصلح فضمنهم ابنه عن أبرهة فعينه حاكماً على معد، ورجع أبرهة من حلبن (حلبان) بقوة الرحمن في شهر ذو علان في السنة الثانية والستين وسـتمائة".
كما هو واضح من النقش، فإن أبرهة حقق انتصارا عسكريا في حلبان (وليس مكة)، ثم عاد إلى اليمن ظافراً بعد أن نصب حاكما قبليا على القبائل في تلك النواحي.

لا شك، أن هذا النقش- وهو ليس الوحيد- يتعارض مع الروايات الإسلامية التي تؤكد هزيمة أبرهة، ولقد عمد كثير من الاعتذاريين المسلمين إلى التشكيك في النقش، أو الادعاء أن النقش سبق هزيمة أبرهة في مكة، ولكن من غير الواضح لماذا يعمد ملك مسيحي مثل أبرهة إلى غزو مكة الوثنية، في حينها، ولماذا لم يتم العثور على نقوش تؤرخ لهذه الهزيمة. الروايات الإسلامية تتحدث عن أن أبرهة بنى كعبة لمنافسة كعبة مكة، ولكن هذا الادعاء أيضا يتناقض مع نقش (548 ق. م) الذي يؤرخ لإعادة بناء سد مأرب وبناء كنيسة في ذات الموقع.

جرت دراسة هذه النقوش وتوثيقها من قبل علماء الآثار المشهورين مثل أليساندرو مارجيت (2002) و ار بي سيرجنت (1981)، مما يوفر رؤى قيمة عن عهد أبرهة وأهميته في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، كشفت الحفريات الأثرية التي أجريت في اليمن عن قطع أثرية وهياكل يعتقد أنها مرتبطة بعصر أبرهة، مما يؤكد وجوده وتأثيره.

لقد سلطت أعمال علماء الآثار مثل كريستيان روبن (2010) وسابينا أنتونيني (2018) الضوء على هذه الاكتشافات. إذا من الواضح أن تاريخ أبرهة حاضر ليس في اليمن فقط، بل وسط الجزيرة العربية وغربها من تهامة وصولا إلى يثرب.
ويعدّ نقش (CIH 541) أطول نقوش أبرهة التي عثر عليها قرب سد مأرب في عام 2004، ويتكون من 136 سطرًا. يبدأ بصيغة عيد الشكر الثالوثية (لسطور 1-3 )، متبوعة بإشارة إلى اسم أبرهة (السطر 4)، والعناوين (السطور4-6)، والسيادة (السطور 8- 16). ويروي النقش قصة تمرد أَخْمَدَهُ الملك (السطور 10-55 )، وقد كان ذلك قبل كتابة النقش نفسه.

وتتبع هذه الرواية رواية أخرى تذكر ترميم الملك لسدّ مأرب (السطور55-61)، والذي يشار إليه مرة أخرى في السطور من (68 إلى 71)؛ ثم الاحتفال بقدّاس في كنيسة المملكة السطور (65-67)، وتفشي الطاعون (السطور 72-75). بعد ذلك نجد المزيد من التفاصيل حول حملات الملك العسكرية في شبه الجزيرة العربية (السطور80-76)؛ وتشير السطور من (80 إلى 87) إلى أنه عاد إلى مأرب بعدهم؛ وتعتبر السطور من (87 إلى 92) تقريرًا عن التنظيم اللاحق لمؤتمر دبلوماسي شاركت فيه وفود من إثيوبيا وبيزنطة وبلاد فارس والممالك العربية التابعة للرومان والساسانيين. كما نرى في هذا النقش أن أبرهة يتلقى مبعوثين من الإمبراطوريات في الوقت الذي تدعي تلك المصادر موته.

في واحدة من مقالاته العلمية المهمة "أبرهة ومحمد: بعض الملاحظات الخاصة بالتسلسل الزمني والطوبوي الأدبي في التقليد التاريخي العربي المبكر" (1987)، سلط البروفيسور لويس كونراد البحث على ما يسمى بـ"عام الفيل" في التراث الإسلامي، وعلاقته بالمولد النبوي. استعان كونراد بنتائج التنقيب الأثري، والنقوش المكتشفة، ليقوم بإعادة ترتيب الحوادث وفقا لتسللها الزمني حسب البحوث المادية.
ومن الاستنتاجات التي توصل إليها كونراد الآتي:
-حادثة استخدام الفيل في حملات مملكة الحبشة على اليمن وجنوب الحجاز، مختلف حولها، وهي على الأغلب تنتمي إلى الفلكلور أكثر منها حقائق تاريخية.
-المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس كان قد أرخ لحياة أبرهة وحملاته العسكرية، ويمكن الاستنتاج من تاريخ بروكوبيوس أن وفاة أبرهة كانت بحدود 545-550 ميلادي.
-فيما يخص أبرهة لا توجد أدلة على قيادته أو إرساله حملات إلى مكة، بل إنه وفقا للنقوش العديدة التي أرخت للحملات العسكرية لأبرهة، فإن أهم معركة حدثت في تربة (في المملكة العربية السعودية) عام 547 ميلادي، حسب النقش المدون.
-اعتمادا على دلائل أركيولوجية أخرى فإن آخر حملة عسكرية لأبرهة كانت قبل عشرين عاما من الحملة الفارسية على اليمن عام 572 ميلادي.
-يرى كونراد أن اختلافات الروايات في السيرة والتي تصل إلى 85 عاما بين الحدثين (المولد النبوي وعام الفيل)، ناتج عن تعيين سن البعثة بأربعين، وافتراض معاصرة النبي لأحداث وقعت قبل عقود من ولادته. لأجل ذلك فإن الرواية التراثية الإسلامية خصوصا في العهد العباسي ألغت الآراء الأخرى، والتي تجعل المدة الفاصلة بين المولد وحملة أبرهة في الحجاز تتراوح ما بين 40 إلى 70 عاما، وقد سرد كونراد عددا من تلك الروايات.
-يرى كونراد أن مشكلة السيرة بدأت من اعتمادها في البداية على "أيام العرب"، وهي الرواية الشفهية لعصر ما قبل الإسلام، حيث أن ذلك التراث الشفوي لم يكن تاريخا موثقا، بل فلكلورا متوارثا مليئا بالروايات المتناقض.
والخلاصة هي أن ثبوت تناقض تواريخ الولادة والبعثة، يشير إلى أن السيرة جرى اجتزاؤها، وإعادة تأريخها من محتواها الشفهي إلى توثيق كتابي بشكل مفتعل، حيث لا يمكن ثبوت الأحداث وفقا لتلك التواريخ.

أبرهة والتوحد واليمامة
هل بدأ محمد -أو استعاد- دعوة التوحيد كما تنص على ذلك الرواية الإسلامية؟ في الحقيقة، النقوش لها رأي آخر. في مقالته "الصيغة الكريستولوجية لأبرهة ومدى صلتها بدراسة أصول الإسلام"، يفترض كارلوس سيغوفيا (2015)، ارتباطًا بين القرآن والمسيحية الإثيوبية من خلال افتراض تشابه بين النظرة الكريستولوجية للمسيح (طبيعة المسيح) في صيغ الشكر الإثيوبية المكتشفة في بعض النقوش وبين النظرة الإسلامية للمسيح كصاحب طبيعة بشرية (ابن مريم وليس ابن الرب)، ويستعين في هذا ببعض الصيغ السريانية الوسيطة في رأيه والمؤثرة على المسيحية الإثيوبية.
يناقش سيغوفيا اختلاف الصياغة المتعلقة بيسوع وعلاقة يسوع بالربّ في نقوش أبرهة بالمقارنة مع نقوش المسيحية التي سبقته:
-نقش سيمفع أشوع (الرحمن وابنه bn-hw)،
-نقش سيمفع أشوع (المسيح المنتصر)،
-أبرهة (الرحمن ومسيحه w-ms1ḥ-hw).
يتساءل سيغوفيا لماذا اختار أبرهة مصطلح المسيح (Messiah) الذي لم يكن موجودًا في أيّ جزء من كامل مجموعة النقوش العربية الجنوبية القديمة، بدل من استخدام المصطلح الأكثر شيوعًا الابن (Bn)، وهو أيضًا المصطلح المستخدم بشكل شائع في البسملة الإثيوبية الثالوثية (بسم الأب والولد والروح القدس).
يوضح سيغوفيا دعوات / تضرعات المسيح في المسيحية القديمة المتأخرة عادة إلى (الربّ الأب وابنه المسيح). ومع ذلك، من المعروف أن الديوفيزيين، الذين اعتقدوا أن المسيح هو ابن الرب (مثلهم مثل الميافيزيين والخلقيدونيين)، أكدوا على طبيعة يسوع البشرية ضد الميافيزيين وحتى أكثر من الخلقيدونيين أنفسهم. وبالتالي، فإن الوصف الديوفيزي المعروف لمريم هو أنها أُمّ المسيح (Christotókos)، بدًلا من أُم الربّ (Theotókos).
ويوضح سيغوفيا أن صيغة (الربّ ومسيحه) لا تحتوي على أساس كتابي، وليست موثقة في مدونات الأدب الديوفيزي القديم المتأخر.. لكنها تتناسب ضمنيًّا مع العقلية الديوفيزية.

وعلى ما يبدو، فقد عاش المسيحيون النسطوريون / الديوفيزيون في حِمْير، على الرغم من أنّ حِمير كانت مرتبطة طائفيًّا بالميافيزية الإثيوبية بعد 525/531، وبالتالي من المنطقي أن نسأل ما إذا كان أبرهة حاول أن ينأَى بنفسه عن أكسوم من خلال المصادقة على كريستولوجيا موجهة نحو الديوفيزية / النسطورية.


يقول سيغوفيا: من الممكن أن أبرهة -الذي كان قد قدّم نفسه على أنه ملك مسيحي على ما يبدو- قد حاول تجنب أيّ استفزاز حاد ضد يهود حمير، وهي أرض شهدت لعدة قرون صراعًا دينيًّا مستمرًّا أشعلته بيزنطة وبلاد فارس بطريقة غير مباشرة بين المسيحيين واليهود، فحاول الحُكم بطريقته الخاصة.
ثم يمضي سيغوفيا ليؤكد أنه مهما كانت نيّة أبرهة، فإن صيغته الكريستولوجية تثبت أن المسيحيين من الجنوب العربي في القرن السادس، حتى المسيحيين العاديين لم يكونوا يستغربون تمامًا تمثيل يسوع بالمسيح بدًلا من ابن الربّ، وهي نفس السمة التي ترد في القرآن من وجهة نظر يسوع نفسه، والذي يُدعى في القرآن بالمسيح ابن مريم؛ مرارًا وتكرار، بدل من ابن الربّ.

إذا، دعونا نفترض أن أبرهة -من واقع النقوش العديدة- ربما بدأ بنفسه هذا النهج التوفيقي -أو تبنى الرأي الصاعد- بين رعيته من اليهود والمسيحيين ممهدا لفكرة التوحيد الجامعة بين أهل الكتاب.
لكن ثمة أمر أكثر جدلا، كما يرى سيغوفيا، هو أن كلمة كان (mn ymnt) في نقش 541 CIH و 20-2002 DAI GDN و Ry 506 يمكن تفسيرها على أنها تشير إلى إقليم اليمامة، وأن هناك سببا وجيها لافتراض أن أبرهة لم يكن غازيًا فقط، ولكنه أراد أيضا نشر شكل معيّن من المسيحية التوفيقية في وسط وشبه الجزيرة العربية وما وراءهم، وربما لهذا السبب غزا يثرب في الحجاز.

إن اليمامة التي كانت مرتبطة بعلاقات تجارية مع مكة قبل الإسلام هي المنطقة التي، وفقا للمصادر الإسلامية اللاحقة، ظهر فيها مسلمة الحنفي والذي، كما تقول الأسطورة، أُطلق عليه اسم "رحمن اليمامة" وهو نفس اسم إلهه، الذي يبشّر برسالته التوحيدية.
إنه من الصعب، كما يقول سيغوفيا، تحديد الاختلافات بين وجهات النظر الدينية للإسلام و دعوة مسلمة بدقّة. فكلاهما بشّر باسم الإله نفسه، وبالتالي تحدثا نفس اللغة اللاهوتية، واستخدما عبارات مماثلة، حتى انهما كانت لديهما مزاراتهما الخاصّة، والقرآن الخاصّ بهما.

يخلص سغوفيا إلى الآتي: "سيكون من المشروع أيضًا أن نسأل إلى أيّ مدى يجب دراسة الإسلام الناشئ على خلفية المسيحية في الجنوب العربي في القرن السادس. إنني بالتأكيد لا أدّعِي أنّ المسيحية في الجنوب العربي في القرن السادس هي مفتاح فكّ رموز أصول الإسلام. أنا أقول ببساطة أنها يجب أن تؤخذ في الاعتبار كعامل ذي صلة، إذْ تم إهمالها في كثير من الأحيان حتى الآن، وقد يساعد ذلك في تفسير ظهور الإسلام ومكونه في الجنوب العربي".
ولعل هذا، برأيي، سبب تعمد أمثال وهب بن منبه (738) وغيره من المتأخرين مثل الكلبي (819) وآخرين إلى تزييف تاريخ اليمن ونجد وتهامة، ومحاولة اغتيال شخصية أبرهة، وتحريف دوره التأسيسي المحتمل، بحيث أصبحت السير والتراث الإسلامي تعتمد على هذا التصور الذي يرى قريش مكة وثنية ولكن في ذات الوقت تهزم أبرهة المسيحي الموحد، وتعطى دور مبالغ فيه لعروبة اليمن ودور قبائله في تاريخ العرب قبيل ظهور الإسلام.
يبقى أن بعض الباحثين مثل جوردن نيوبي (1974) يرى في مقالته "أبرهة وسنحاريب: تشابهات تلمودية مع تفسير سورة الفيل" بأن قصة أصحاب الفيل ليست إلا تلخيصا لقصة فشل غزو سنحاريب -الملك الأشوري- لجيروزليم حيث استخدم أفيالا، وهذه القصة مضمنة في العهد القديم، ويرى بأن التأثير اليمني / الأثيوبي على الرواية الإسلامية حرف التفسير الديني لتلك السورة.

خاتمة
إن "عام الفيل" مع وجود أبرهة كشخصية مركزية، هو سرد متأصل في التراث الإسلامي ويجمع بين الأحداث التاريخية والعناصر الأسطورية. في حين أن الدقة التاريخية الدقيقة للقصة تخضع للتكهنات والتفسير، ذلك أن أهميتها الدينية والرمزية تظل قائمة بلا منازع. وبينما نستكشف السياق التاريخي والجوانب الأسطورية ل "عام الفيل"، نواجه قصة تعكس تعقيدات الإيمان وقوة التدخل الإلهي في مجرى تاريخ البشرية. لكن ما هو مؤكد هو أن البحث الأركيولوجي والتدقيق البحثي يبقى ضروريا للتمحيص بين الأسطورة والتاريخ.