استيقظتُ هذا الصباح على صور شجرةٍ تهطل منها شعلاتٌ متوهجة وفتقٍ صغير في باحة الدار يفور منه سائلٌ حار. مرّت لحظات لأدركَ أنني ما زلت عالقة في أطياف منام. في البداية ارتفعت نوافير مياه من أغصان الشجرة. بدت جميلة فاتنة في أضواء الليل، لكنها ما لبثت أن توقّفت وتصاعد دخان كثيف من الشجرة تلاه انهمار شلالات من النار وجمرات متقدة تتناثر حولي، فأدركت أنه بركان، وناديت الساهرين من أهلي وجيراني لنلوذ بالفرار. تسمّرت عيناي على الشجرة وفوهة البركان التي تتسع في الفناء بينما أمضي مع الآخرين في رحلة نزوح عن الديار. تلك مناماتنا نحن السوريين الخارجين من الحرب والعالقين في أذيالها. نترقب الكوارث باستمرار، فكيف هي منامات أهل غزة إذا استطاعوا إلى النوم سبيلاً؟! هل يجدُ الفلسطينيّ فرقاً حين يصحو بين كوابيسه وواقعه البائس تحت الاحتلال منذ خمس وسبعين عاماً؟
اختزال الكارثة الإنسانية في غزة بالأرقام وضياع القصص الحقيقية للبشر والمكان
أتأمل في الصور والفيديوهات القادمة من غزة. صور دم وحرائق ودمار كبير يرتاع المرءُ منها ويعجزُ العالم عن الإحاطة بها فيحيلها إلى أرقام كبيرة. آلاف الشهداء والمصابين. ألاف المنازل المدمرة. مئات الآلاف من النازحين، ولا وقت للفلسطيني ليحكي الحكايات عن كل هؤلاء. لعلّ من ينجو ويجرؤ على التذكّر يروي بعضها لاحقاً، لكنّهم تحت القصف المستمر يرسلون في عجلة أرقاماً، وهذه الأرقام تتزايد وتكبر كل دقيقة أكثر مما تستوعب ذاكرة المشاهد محدثة فوضى في عقله المنهك. استشهاد سبعين عائلة ومحوهم من السجلات أم دمار سبعة أحياء؟! مطلوب مليون نازح أم مليون شهيد؟! وحين تتحوّل الكارثة إلى مساحة وعدد يضعفُ تأثيرها، فالأرقام غالباً لا تحرك إلا عاطفتي الخوف والطمع.
في (2010) كتبت مقالا في إيلاف بعنوان (غزة والدور الإعلامي للصورة) بيّنت فيه أهمية ما قام به الناس من نشر صور العدوان الإسرائيلي على غزة. صور بسيطة التقطها أهل غزة وأرسلوها عبر البريد الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي دون شرح أو تقنيات مونتاج، لكنها كانت أبلغ من أي كلام، فكشفت حقيقة الاحتلال وجرائمه، واضطرت الإعلامَ الغربي المتحيّز لإسرائيل أن ينقل خجلاً بعض ما يجري، لكني اليوم، وعشراتُ المنصات على مواقع التواصل الاجتماعي تتنافسُ وتتسابق لإغراق العالم بالصور، أرى أنّ اهتمامنا يجب أن ينصبّ على النوعية والأسلوب أولاً والالتفاف على الخوارزميات المتحكمة في انتشارها ثانياً.
صورتنا وصورة إسرائيل في الإعلام الغربي ومنصاته الاجتماعية
يتّسم الدعم الشعبيّ في معظم الدول العربية والإسلامية بالصخب والصراخ في الشوارع وعلى منصات التواصل الاجتماعيّ. تطغى على مظاهراتنا هتافات حادة وتلويح عصبيّ بالأعلام الفلسطينية، مما يشير إلى الغضب الهائل الذي يعصف بالنفوس من رؤية صور الأطفال المقتولين والمصابين في غزة والضغط النفسي الذي يرزح تحته هؤلاء المحتجون العاجزون. هذه الانفعالات الجسدية قد تخفف عن المحتجين وتريح ضمائرهم أكثر ممّا تفيد غزة، فلفت الانتباه إلى مأساتها يمكن أن يتحقق بطرائق أخرى أيضا أكثر هدوءاً.
بالمقابل، تمرُّ صور الإسرائيليين في الإعلام الغربي حزينين في صمت مهيب. يرفعون لافتاتهم بهدوء ترافقهم موسيقا كلاسيكية جنائزية، أو يصغون بإجلال إلى أستاذ يحاضر بهم في إحدى ساحات عواصم العالم ويصف لهم معاناة الإسرائيليين من صواريخ حماس، أو يشعلون الشموع لضحاياهم بدموع خرساء، بالإضافة إلى قصص الضحايا الفردية التي تتدفق أنهاراً. يروون حكاية كل أسير أو قتيل بألم وحنان كبيرين. يجعلونك تشمّ رائحة أحلامه. تتذوق طعم معاناتهم من الفقد أو القلق على أسراهم. يجتهدون ليقدموا صورة مثالية لضحية مسكينة تتعرض للأذى ولا تقدر على حماية نفسها.
وحين يحاول الإعلام الغربي إظهار بعض الحياد والموضوعية في تغطية طرفي الصراع حتى لا يفقد مصداقيته بالكامل، فإنّه غالباً يكتفي بإظهار صور الدمار العام في البنية التحتية بغزة، وينشر بعض الصور لمصابين في المشافي. صور حقيقية ومؤثرة، لكنّ قسما كبيراً منها يظهر تعابيرَ من الغضب أو الهلع أقوى بكثير مما يحب الإنسان رؤيته، وربما تترك انطباعات غير إيجابية عند البعض. بالتأكيد لا يمكن لعاقل أن يقول لأهل غزة أن يضبطوا ملامحهم لتبدو جميلة تحت القصف والموت، وإنما أردت توضيحَ أيّ الصور ينتقي الإعلام الغربي حين يضطرّ لتغطية معاناة أهل غزة، وهذا ما يضاعف مسؤوليتنا في مواجهة الدعاية الغربية المتحيزة لإسرائيل، والتي تمتلك أشهر الوسائط الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي.
لا يُتوقع من أهل غزة وهم يُقصَفون في بيوتهم ومشافيهم وعلى دروب النزوح أن يرسلوا فيديوهات توثق كلّ ما يجري بأساليب فنية، لكنه واجب كلّ من يقدر من الإعلاميين وصنّاع المحتوى المدرَّبين أن يهتموا بالقصص الفردية للناس، ولا يكتفوا بإبراز الخطوط العريضة للكارثة الإنسانية المختزلة بالأرقام، فلا شيء يؤثر في عواطف الناس أكثر من القصص والحكايات، وإذا كانت شخصيات درامية وفنية ك "أمّ سعد" و "حنظلة" مازالت راسخة في الوجدان العربيّ، فأولى بنا أن نعرّف العالم بأشخاص حقيقيين تقتلهم إسرائيل وتغتال أحلامهم.
الخطاب العربي الإسلامي والخطاب الإسرائيلي
يلاحظ المتتبع للخطاب الإسرائيلي نوعين مختلفين كلية. الأول موجه إلى الفلسطينيين والعرب عامة، وتطغى عليه لغة التهديد والوعيد والقوة الضاربة المستشرسة، والثاني موجه إلى الغرب يمثّل دور الضحية المسكينة معبراً عن حزن عميق نبيل يجلب تعاطفاً كبيراً. وهنالك خطاب ثالث قلّما ننتبه إليه توجهه إسرائيل إلى السذّج من رعاياها من خلال بثّ فيديوهات مفبركة تحرّضهم على الفلسطينيين وتقنعهم بسياستها وقوتها وحمايتها لهم. لاشكّ أنّ إسرائيل دولة قوية مجهزة بأحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية، ويساندها معظم الغرب، فلا تحتاج أن تخفي جرائمها، مع ذلك نراها تستخدم أفضل الأساليب والتقنيات لتلميع ذاتها أمام الرأي العام الغربي. هي لا تستخفّ به رغم إصرارها على الاستمرار في انتهاكاتها للأعراف والقوانين الدولية. إنها تؤمّن للحكومات الغربية المبرّر والمسوغ الأخلاقي لوقوفها إلى جانبها.
بالمقارنة مع الخطاب الإسرائيلي المتعدد والمتنوّع، نجد الخطابَ العربي والإسلامي واحداً. يستخدم لغة التحدي والمفاخرة والسبّ والشتائم مع إسرائيل كما يستخدمها مع الغرب الداعم لها، والذي نحن خاضعون له سياسياً وثقافيا في معظم جوانب وتفاصيل حياتنا، وهذا ما يجعل المهاجرين منا في مأزق أخلاقي وسياسي، ويكشف في ذات الوقت عجزنا عن تمثّل المقولة البلاغية القديمة (لكلِّ مقامٍ مقال).
الإعلامي باسم يوسف في حواره مع مورغان اختار تقديم المعلومة الصحيحة بأسلوب فكاهي ساخر يجذب ويلفت الانتباه دون أن يشتم ويسبّ ويصرخ أو يستعطف ويتوسّل. فن المناظرة والرد أولاه علماء اللغة والأدب في عصورنا القديمة اهتمامهم، فعلموه للصبية وزخرت به مجالس العلم وكتب التراث، لكنه تراجع في ثقافتنا الحديثة الميالة إلى الذاتية، وأُهمِل في برامجنا التعليمية القائمة على الحفظ والتلقين. ما نراه الآن على قنواتنا الإعلامية هو أقرب للمشاجرات والحروب اللفظية، لذلك حين يفشل خطابنا وصراخنا في الوصول إلى قلب الرأي العام علينا أن نوجد صوتاً مغايراً يخاطب العقول المختلفة وصورة لا تكتفي بنقل الحقيقة بل تصل أعماق العاطفة وتجتاح كلّ هذا الصمت والتجاهل والعجز والشلل.
من الأخطاء التي يقع فيها خطابنا ترديدُ مقولة "ما يجري في غزة هو عقاب وانتقام جماعي"، فرغم دلالتها على حجم الكارثة إلا أنها توحي أنّ انتقام إسرائيل هو ردة فعل فقط على هجوم حماس في السابع من تشرين الأول، وفي هذا بعض التبرئة والتسويغ لها، بينما الحقيقة أنها تذرّعت بهجوم حماس لتبدأ بتنفيذ مخطط وضعته سابقاً لتهجير أهل غزة والاستيلاء على أرضهم تماما كما فعلت في النكبة، وهناك تصريحات أنها كانت ستنفذ هذا المخطط بأي طريقة مرددة ربما عبارة رئيستها السابقة (غولدا مائير) "لن نسامح الفلسطينيين لأنهم جعلونا نقتل أطفالهم". فالذنب وفقاً لها ذنب الذين يرفضون التخلي لها عن وطنهم طوعاً. الذين لا يموتون بصمت فيتسببون بخدش بسيط في صورتها وليس في ضميرها طبعاً.
دعم الحكومات الغربية اللامحدود لإسرائيل يصيبنا بالإحباط الكامل، فهي تعرف تماما ما يجري هنا من عدوان آثم على الفلسطينيين وتزيّفه لصالحها، لكنّ موقف الرأي العام الغربي وتضامنه غير المسبوق مع غزة يمنح بعض الأمل، وخاصة بروز الأصوات اليهودية المؤيدة لحق الفلسطينيين بقوة لم نشهدها من قبل ما يبشّر بانتهاء الفكر الصهيوني عاجلاً أو آجلاً، وإذا كان هؤلاء أقدر على مواجهة حكوماتهم الغربية من المهاجرين، فإنّ الواجب يحتّم أن نبذل كلّ طاقاتنا وجهودنا لمساندة أهل غزة، وأن نكون بمستوى الخطر الذي يتعرضون له من إبادة وتهجير ثالث. مساران يجب أن نعمل عليهما في ذات الوقت نحن الذين لا نستطيع أن نفعل الكثير لغزة: كشف الترويج الإعلامي الغربي الكاذب والترويج لقضيتنا بشكل جيد من خلال إنتاج خطاب وصورة حقيقيين ومؤثرين.
التعليقات