حين ينجلي غبار المعركة، وتدب الحياة مجدداً من بين الركام، من حق غزة أن تتساءل: ما الذي جرى؟ ولماذا؟
لن يخرج من بين الأطلال جواب، ولكن الأيام قد تخرج ما في جعبتها من أسباب ومبررات، حينها سيكون للتاريخ كلمة.
اليوم، بعد نحو مائة يوم على اطلاق عملية طوفان الاقصى، وما تبعها من إجرام إسرائيلي ممنهج طال البشر والحجر، فإن عين القلق تتسمر على تداعيات هذا الطوفان، فأي تسونامي سياسي يموج في الاقليم، مهدداً ركائز استقرار بعض الدول المجاورة، ويجرف تضاريسها السياسية والديموغرافية.

حسابات الدم، وعداد الموت اليومي لن تقل وحشية عن حسابات الهزائم السياسية، طالما بقي "حل الدولتين" أسيرا في قبضة التطرف الإسرائيلي الرافض لقرار القمة العربية في بيروت عام 2002 والتي خرجت بموقف للتاريخ يعطي إسرائيل السلام العادل والشامل مقابل إقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل.
إن نظرة سريعة وموجزة على حصيلة تسونامي هذا الطوفان وما عقبه من عمليات إسرائيلية لا تزال تتوالى ألوانا من الإجرام، تكشف عمق الازمة التي خرجت بتصدعها من قطاع غزة.

انفصال عن البيئة العربية
فلسطينيا، سلخت حركة حماس - بقصد او بغير قصد - القضية الفلسطينية من بيئتها العربية، وتحولت المعركة من حرب إسرائيلية - فلسطينية عربية إلى مواجهة إسرائيلية حماسية. وهنا مربط الخطيئة!

الوطن البديل
الاردن
يعيش الآن كابوس "الوطن البديل"، فأية حواجز يمكن أن تصمد في وجه المهرولين نحو الحياة هرباً من آلة الموت اليومية؟
القيادة الهاشمية في وضع لا تحسد عليه. تقود المملكة وفق توازنات إقليمية دقيقة وتواجه تسونامي التغيير الديموغرافي في وقت يعبر فيه الاقتصاد الأردني في أسوأ محطاته.

صراع الاقتصاد والأمن
أما مصر، فان المشكلة بحجم دورها، ونفوذها، والتحديات الاقتصادية التي تواجهها، وأيضا بحجم الآمال المعلقة عليها. سعت القاهرة لتجنب المواجهة في قضية الشريان المائي في خلافها مع إثيوبيا حول مجرى النيل، فكان أن تفاجأت بصواريخ "مقاومة البحار" دعماً لحماس، مصيبة شريانها الاقتصادي المائي ممثلا بقناة السويس.
وبين الاختناق الاقتصادي، وضيق مجرى التنفس المائي في السويس، لم تر مصر بديلاً عن إرسال مدرعاتها لحماية حدود سيناء من أي توغل إسرائيلي أو زحف فلسطيني. ويغيب عن الظن أن مصر يمكن أن تتحمل أمام التاريخ موقفاً بقبول خطة النزوح والتوطين في سيناء مهما اتسعت الفجوة بين عمق الأزمة الاقتصادية وسقف المغريات.

سيطرة حزب الله
في لبنان، منظومة الحكم أعادت بشكل أو بآخر رص صفوفها وذهبت آمال الحالمين بالتغيير أدراج الرياح. وتسلم حزب الله زمام القرار، يفاوض هنا، يهدد هناك، ويناور هنا وهناك على امل الظفر بمكافأة تُشرع سطوته على مفاصل القرار في الدولة!

وإذا كانت سوريا لا تزال غائبة ومغيبة عن التأثير بالمحيط بسبب الحرب، فان بلاد الرافدين تعاني التنافس الشرس بين عراق التلاقي العربي والدولي، وعراق الفصائل باعلام.

البعد الديني
السؤال الكبير هنا، لمصلحة من هذا التسونامي السياسي؟ ومن يغذي محركاته؟
حاولت إيران ربط القضية الفلسطينية بالبعد الديني متجاوزة توقيع السلطة الفلسطينية اتفاقا سياسيا لاطلاق عجلة السلام مع اسرائيل، وهنا لابد من الاشارة الى الأهمية الاستراتيجية للقمة العربية الاسلامية في الرياض في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، التي اعادت تصويب القضية: السلطة الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، والدولة الفلسطينية شرط للسلام مع اسرائيل.

ان الضربات التي استهدفت الخاصرة الاردنية مع سوريا، والرئة الاقتصادية لمصر في البحر الاحمر، وكذلك تلك التي انطلقت من العراق مستهدفة عودة "عراق التلاقي" العربي والدولي، جميعها انطلقت من قواعد تابعة لجماعات موالية لايران.

اقتناص الفرص
ثم، وثم إيران خير من يقتنص الفرص، فهي من خلال اذرعتها تفاوض واشنطن على وجودها العسكري في العراق، وعلى خارطة نفوذها في منطقة الشرق الاوسط. ولا يمكن ان نغفل ايضا ان اجنحة بارزة في طهران ومن خلال استغلالها الدم الفلسطيني حسمت مبكرا نتائج الانتخابات المقبلة، واجهضت مسبقا اية محاولات تعكر صفو النظام مستقبلا... وهنا بيت القضية الايرانية المحافظة على النظام.
فرغم مشهدية القوة المترامية الاذرع في لبنان وسوريا والعراق واليمن فان طهران تواجه التحدي الاكبر في تاريخها وهو كيف تتشكل مرحلة ما بعد المرشد علي خامنئي. فإلي أي مدى يمكن لوحدة الساحات الإقليمية وتعددها أن تحمي الساحة الداخلية في إيران؟ الشرق الاوسط الجديد في طور التشكل وطهران تقاتل بكل أذرعتها لكي يكون لها موقعا بارزاً فيه.
الأيام حبلى بالمفاجآت.