خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة حاملاً بيده الخارطة السياسة الجديدة للشرق الأوسط من دون فلسطين، ومعلناً أن ليس من حق الفلسطينيين الاعتراض على التطبيع، ومغيباً الدولة الفلسطينية تماماً من الخارطة الجديدة، ومباهياً بالتطبيع مع الدول العربية ومعلناً ثقته باقتراب السلام مع السعودية، كل ما سبق كان يمثل استعراضاً للأهداف الحقيقية لحرب إسرائيل على غزة، وفي طليعتها تفكيك القضية الفلسطينية باغتيال شعبها وتهجيره.
يسعى نتنياهو، ومعه اليمين الإسرائيلي، إلى منع قيام دولة فلسطينية تحاذي إسرائيل، وهذا هو الهدف الفعلي للحرب، وقد أعلنه نتنياهو صراحة حين أكد أنَّ إسرائيل لن ترضى بقيام دولة فلسطينية. لكنَّ الخطاب، ومثله الأهداف المعلنة، يمثلان في الواقع شكلاً من أشكال أحلام اليقظة؛ فلا الحرب هذه، ولا غيرها، قادرة أن تقتلع شعباً كاملاً من أرضه أو تمحو حقائق التاريخ.
إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر خامنئي؟
إن بعض الحقائق لا يمكن إنكارها؛ فمن نفس المنبر الذى وقف عليه نتنياهو، خاطب الرئيس محمود عباس الأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين، كما خاطبها من قبل أكثر من مرة كرئيس لفلسطين بصفتها الدولة المراقب، ويدرك نتنياهو أن الفيتو الأميركي هو ما يحول دون تحول هذه الدولة إلى دولة كاملة العضوية. وليس خافياً أن الاحتلال الإسرائيلي لأراضي هذه الدولة يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة. ويبدو أن نتنياهو لم يقرأ أو يسمع، في أحلام اليقظة التي تنتابه، عن العديد من القرارت الدولية التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتتفاوت ما بين الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وبين عدم الاعتراف بالاستيطان، وبين حق الشعب الفلسطيني في دولته. ويدرك نتنياهو أنَّ الشرعية الدولية لا تسقط بالتقادم، وينقصها القوة الدولية التي تعيقها الولايات المتحدة.
إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟
لعل من أهم ما تجاهله نتنياهو، في أحلام اليقظة، القرار الأممي رقم 181، والذي في حين ينص على قيام إسرائيل كدولة على مساحة تقارب 55 بالمئة من أراضي فلسطين التاريخية، فإنه ينصّ أيضاً على قيام الدولة العربية بمساحة 44 بالمئة، مع وضع القدس تحت الوصاية الدولية. وقد تناسى نتنياهو أيضاً أنَّ هذا القرار ذاته ما كان ليصدر لولا تحكم بريطانيا وأوروبا وأميركا وقتها بالتصويت في الأمم المتحدة، في زمن لم يكن عدد الدول يزيد في المنظمة الأممية عن 45 دولة، أما عددها اليوم فيتجاوز 193 دولة، بينها 120 دولة تعترف بفلسطين، وتقيم علاقات دبلوماسية معها.
وإلى جانب هذا القرار، هناك القرار رقم 194 الخاص باللاجئين الفلسطينيين، وقد حفظ لهم حق العودة الذي لا يسقط بتقادم الزمن. ومن صور أحلام اليقظة التي لم يرها نتنياهو بعينيه أنَّ هناك أكثر من سبعة ملايين فلسطيني ما بين البحر والنهر، في حين أنهم يمثلون أكثر من خمس السكان داخل إسرائيل، وإذا كانوا يحملون جنسيتها كمواطنين، فإنهم لم ينسوا هويتهم العربية الفلسطينية، كما أنَّ هناك ما يقرب من خمسة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وغزة يعيشون تحت الاحتلال. أيضاً، هناك مخيمات اللاجئين الثابتة والراسخة. إنَّ هذه حقيقة بشرية راسخة تعود جذورها التاريخية إلى أكثر من ألفي عام، أي إلى زمن الكنعانيين الذين تتسمى الأرض باسمهم، وفلسطين التى يتجاهلها نتنياهو كانت عبارة عن دولة واحدة تجمع الكل فيها، ووضعت تحت الانتداب البريطاني كغيرها من الدول، لكن التحالف والتـآمر مع الحركة الصهيونية، وتنفيذاً لوعد باطل بمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين، ولولاه لما قامت إسرائيل كدولة وبقيت فلسطين دولة واحدة لكل شعبها، من الفلسطينيين والعرب واليهود. لكنه العمى الأيدولوجي الذي يحجب الرؤية السياسية، ووهم أحلام اليقظة التي عاشها لدقائق معدودة السلام العربي، فالدول العربية ذهبت للسلام حباً في السلام واستقرار المنطقة وتجنباً للحروب، ولم تتنازل عن حق الشعب الفلسطيني في دولته، وربطت بين هذا السلام وقيام هذه الدولة، وإذا كان نتنياهو يراهن على ورقة السلام السعودية، فليقرأ تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الأخيرة ووزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، وفيها تأكيد على حق الشعب الفلسطيني في دولته وفي إنهاء الاحتلال، وأن لا سلام بدون الدولة الفلسطينية.
إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟
وليعلم نتياهو، كما غيره من القادة، أنَّ الدول العربية دول محبة للسلام، وليست دول حرب، والسؤال وهل تنازلت مصر والأردن عن فلسطين؟ سيصحو نتنياهو من حلمه ليرى الواقع والخارطة الجغرافية التى كتبت ورسمتها الأرض والحقائق الجيوسياسة، وليرى بعينيه أن هناك شعباً وهناك سلطة يتعامل معها كل يوم، وأنَّ هناك دولة فلسطينية محتلة ستقوم على أرضها، لأنَّ المحتل لا يمنح ولا يهب دولاً. الدول حق للشعب، ينتزعها بمقاومته الشرعية، ولا ينسى نتنياهو أن فلسطين اليوم عضو في العديد من المنظمات الدولية، وأنَّ السلام كل لا يتجزأ، ولا يكتمل إلا بقيام الدولة الفلسطينية السلمية المدنية الديموقراطية، وأن لا بقاء لإسرائيل إلا بقيام هذه الدولة وبالتعايش المشترك بين الشعبين الفلسطيني واليهودي، ويعيشان على نفس الأرض وتجمعها وحدة الأرض ووحدة الجغرافيا، وهي أقوى وأثبت من قوة الاحتلال. إنَّ خارطة السلام ليست خارطة القوة، وإذا كانت الحرب تدمر وتقتل، إلا أنها لن تقضي على الشعب الفلسطيني، فالشعوب تتوالد وتقوى بالحرب وتتمسك بهويتها وحقوقها.
وهذا هو الدرس الحقيقي لحرب غزة؛ شعب، بالرغم من الدمار والقتل، يرفض التهجير ويتمسك بأرضه.
التعليقات