أدى الدور المتنامي للبحر الأحمر، الممر البحري الأهم في العالم الذي يمر عبره 23 ألف سفينة كل عام نحو قناة السويس، إلى جعله حلقة وصل مهمة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، ووضعه في قلب المنافسة الجيوسياسية. لذلك، واجهت السعودية، بمفردها، الشبكة التي شكلتها إيران لتهديد أمن المنطقة، وبشكل خاص تهديد أمن ممرات البحر الأحمر في مضيق باب المندب، وحاولت تشكيل تحالف الدول المتشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن في 2018 ومقره الرياض، لحماية هذا الشريان التجاري الحيوي، لكن الناتو اعترض على إنشاء هذا الحلف، متذرعاً باتفاقية بحر البلطيق التي لا تمنع الدول البعيدة من التواجد في البحر. إلى جانب ذلك، حاول التحالف العربي بقيادة السعودية تحرير الحديدة من وكلاء إيران الحوثيين في اليمن، لكن المجتمع الدولي وقف حائلاً أمام تحريرها بحجج واهية في المنطقة، واستبدل التحرير باتفاقية استكهولم عام 2018.

حدث ما كانت تتوقعه السعودية من استهداف لمنشآتها النفطية عام 2019، وتمثل الشريان النفطي الحيوي الذي يغذي العالم، عندها اتجهت إلى البحث عن بدائل، كان منها تهدئة عدوها اللدود إيران لمدة استمرت عامين عبر وسطاء من خلال بغداد ومسقط، لكنها لم تقتنع بالضمانات المقدمة لها، عندها تبنت بكين هذه التهدئة في 10 آذار (مارس) 2023، مما شكل صدمة غير متوقعة للولايات المتحدة والغرب معاً، واستخدم بعض الدبلوماسيين الأميركيين عبارات غير دبلوماسية لوصف ما جرى، خصوصاً بعد حسابات استراتيجية اتخذتها الرياض بعد إعلان أوبك بلس عن تخفيض بواقع مليوني برميل في آب (أغسطس) 2022، اعتبرته واشنطن انتصاراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يريد ارتفاع أسعار النفط لمواصلة تمويل الحرب في أوكرانيا. وفي زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السعودية بعد فترة برود في العلاقات بين الجانبين في تموز (يوليو) 2022، وتأكيده على عدم ترك فراغ في المنطقة تملأه الصين أو روسيا أو إيران، اعتبرت السعودية ما يقوله سردية لا تغادر مستوى التمنيات ولا تمس الواقع المتغير في الشرق الأوسط.

هناك 19 قاعدة عسكرية تتبع 16 دولة في جيبوتي، وأنشأت مصر قاعدة برنيس العسكرية البحرية مطلع العقد الجاري، فيما أعادت الصين تأهيل وتوسيع محطة حاويات بورتسودان، التي أصبحت تمثل جزءاً من مبادرة الحزام والطريق، كما قامت السعودية بتعزيز علاقاتها في المنطقة، لأنها ترى استقرار منطقة البحر الأحمر أمراً بالغ الأهمية في الكثير من خططها التنموية التي تقوم عليها رؤية 2030، وفي أيلول (سبتمبر) 2023، تم الكشف عن الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ويتجاوز ممرات البحر الأحمر، وترى واشنطن فيه بديلاً لمبادرة الحزام والطريق الذي يتخذ من البحر الأحمر ممراً له، لكنَّ السعودية ترى أنهما طريقان متكاملان، باعتبار أنها دولة لوجستية وشريكة في الطريقين.

إقرأ أيضاً: باب المندب... أهم الممرات البحرية!

لذلك، سلطت الهجمات الحوثية على السفن التجارية الضوء على الهشاشة المتزايدة للأمن في البحر الأحمر كنقطة ساخنة في المنافسة الجيوسياسية بين القوتين العالميتين، وتهدف الولايات المتحدة أن يؤثر ذلك على مبادرة الحزام والطريق، ويشجع في نفس الوقت التعجيل في تحقيق الممر الهندي المار بالشرق الأوسط إلى أوروبا كبديل، ويخفض وقت نقل البضائع 40 بالمئة، ويساعد في وضع السعودية كمركز لوجستي عالمي، لكن هذا لن يجعل السعودية تتخلى عن التزامها بمبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تتطلب تحقيق الأمن في البحر الأحمر.

ترى السعودية أنَّ الحرب في غزة قوضت الجهود الأميركية والأوروبية والإقليمية لمعالجة التحديات من خلال تطوير منظومة أمنية إقليمية أكثر شمولاً، من أجل ذلك نظمت أميركا مناورات بحرية مشتركة في 2021 – 2022 بين إسرائيل ودول خليجية مطبعة، لكنَّ السعودية ترفض المشاركة في تلك المناورات حتى تقيم إسرائيل دولة فلسطينية، كما دعمت أميركا نقل الجزيرتين السعوديتين تيران وصنافير من مصر إلى السعودية لرسم ملامح مرحلة جديدة، لكنَّ هذه المرحلة غير واضحة المعالم حتى الآن، خصوصاً في ظل رفض إسرائيل إقامة دولة فلسطينية، ويأتي ذلك مع الرد الأميركي غير المتكافئ للحوثيين، والاكتفاء بضربات لاحتواء الحوثيين بالرغم من الأخطار التي تسببها تلك الهجمات سواء على الأمن البحري أو على الاستقرار في المنطقة في ظل مفاوضات سرية تجري بين الولايات المتحدة وإيران.

إقرأ أيضاً: هذا ما تراه السعودية

في ظل هذه الاستراتيجية التي تشكل عنصراً في سياق مواجهة طريق الحرير، ومن أجل إعطاء المزيد من الفرص لمشروع الممر الهندي نحو أوروبا عبر السعودية، تعتبر المحادثات السرية بين الولايات المتحدة وإيران غير كافية، بل لا بدَّ من التوصل إلى تفاهمات بين الولايات المتحدة والصين وإلى اتفاقيات ثنائية، لكن أميركا تود تحجيم النفوذ الصيني لصالح الولايات المتحدة، ومن الصعب أن تقبل الصين بذلك، إلا إذا توصل الجانبان إلى تقاسم النفوذ، وهو لا ينفصل عن الصراع في بحر الصين الجنوبي، بعدما شيدت الصين ست جزر صناعية لإقامة قواعد عسكرية عليها، وأصبح للصين قوات بحرية ضاربة تعزز من هيمنتها ضد الدول الحليفة للولايات المتحدة، على رأسها اليابان والفيليبين، ما يعني أن عسكرة البحر الأحمر ستستمر إلى حين توقف الحرب في غزة.