كان لنا بأطراف قريتنا صومعة ينزلها أحد الرهبان، لا يعلم الناس من مبتدئه ولا خبره إلا كنيته (أبو صيام)؛ ذلك لما رأوه منه من طول صيامه، والتزامه الزهد والتقشف، والنسك والتبتل، فكان لا يفارق قلَّايته تلك إلا مرة كل شهر، فيخرج فيستقي الماء من عين قريبة، ويلتقط تمرات من نخلة عندها، ثم يقوم على حفرة بجنب جداره فيوقد فيها ناراً، ثم يلقى فيها عجيناً، فإذا ما نضج أطفأ ناره، وجمع كُسيراته، ودخل معتكفه، ورَدَّ دون الدنيا بابه، فإذا ما نفدت مؤونة شهره خرج كمثل خروجه الأول، ولا يزال على ذلك العهد سائر عامه، لا يرى أحداً، ولا يكاد يراه أحد، ولا يخالط إنساناً بالجملة، والرجل مستأنس من الدنيا بعزلته، والقوم مستأنسون منه بمجاورته.

ولم يكن (أبو صيام) يخالف عهده ذاك، ولا يفارق سُنَّته تلك إلا أسبوعاً واحداً في كل عام، هو ذكرى سيامته (ترسيمه) راهباً، فحينئذ يفتح قَلَّايته، ويقف ببابها مصلصلاً بجرس، ومنادياً فى الناس، فيقبلون فرحين مستبشرين، فإذا ما اجتمعوا إليه قام فوعظ، ورنَّم، وصلى، وأخذ العشور ففرقها في الفقراء، ثم انطلق يجول يصنع خيراً، فيأخذ بيد الكبير الفاني، ويقضي حاجة العجوز، ويمسح رأس الصبي، ويعين الصانع في صنعته، والحاصد في حصاده، ويحمل الثقل عن المكدود.

وكان الرجل على قلة مخالطته الناس، وانقباضه دونهم يعرف القوم بيتاً بيتاً، ورجلاً رجلاً، فمن افتقده منهم في وعظته، أو غاب عنه في صلاته أتاه في داره، فإن كان مريضاً داواه ورقاه، وإن كان مكروباً أعانه وواساه، وإن كان محزوناً سمع شكواه، و(أبو صيام) في ممشاه من دار إلى دار، واختلافه من بيت إلى بيت لا يمضي وحده، بل يتبعه كثيرون في أثره يأتمرون بأمره، ويقتدون بصنيعه عن محبة له وإكبار.

فكان هذا هو دأب (أبو صيام) ومن تبعه من القوم طوال الأيام السبعة، فإذا ما انقضى أسبوعه دخل مُعتَزَله، ورجع سيرته الأولى.

وقد بقي (أبو صيام) وجماعته تلك على ذلك العهد سنين كثراً لا أحصيها، حتى كان عام اجتمع فيه نفر من محبيه، فقال بعضهم لبعض: (أبو صيام) جار كريم ما أقام فى قلّايته، فإذا ما خرج في أسبوعه وغَشِيَنا فهو ضيفنا، وللضيف حق على مضيفه، فلننظر كيف نكرمه، ثم رجعوا فقالوا: لقد علمتم أن الرجل ليس بصاحب طعام ولا شراب، فليس أفضل من أن نكرمه فى أصحابه الذين يجتمعون عنده، فصنعوا هنالك خيمة بناحية من فِناء (أبو صيام)، وأتى كل رجل منهم بامرأته، أو ابنته، أو خادمه، فأعددن صنوفاً من الحلوى فأخرجنها لرجالهن فاستقبلوا بها أضياف الرجل، فكانت تلك الطائفة تقيم على ذلك الصنيع أسبوعاً تاماً لا يشغلهم من أمر الموسم ولا أمر صاحبه إلا صنع الحلوى وإطعامها القادمين حبًا وإكرامًا (لأبو صيام)، ثم صار الأمر من بعد الحب والإكرام بيعًا وشراءً، وأُمسكت الهدية إلا عن خاصَّة الخاصَّة!

إقرأ أيضاً: !هتMove onأسرع¡‎

فلما رأى ذلك طائفة من شبابهم خلوا إلى أنفسهم، فقالوا: لئن أكرم هؤلاء الرجلَ بما يحسنَّه، فلنكرمنه نحن بما نحسنه، فانطلق كل منهم إلى عُدَّة مهنته فهذا كان له علم بصنعة النقاشة فاحتمل ما استطاع من طلاء وأصباغ وذهب يطلي (لأبو صيام) معتزله بصنوف الدهانات والألوان فجعلها كمثل دار العروس! وهذا كان له علم بزينة الأفراح، فجاء بقناديل مفضضة ومذهبة فعلقها بفنائه وحول بابه، وهذا كان تاجر أثواب فجاء بأثواب مختلفة الألوان فجعلها أعلاماً تخفق فوق الصومعة وحول ساحتها، فكانت قلَّاية الراهب كالشمس الوهاجة، ليست تخطئها عين في ليل أو نهار! وكان من يغشى الموسم لا يكاد يستقر له جفن، أو تسكن إليه نفس لكثرة ما يضطرب من حوله من تلك المضيئات، والملونات، والخافقات، بل ربما جاء الرجل بأهله وولده لا لشيء إلا ليتفكهوا بتلك المناظر المونقة، ويجولوا بين هذا السرادق وتلك الخيمة فيصيبوا شيئاً من الحلوى، وشيئاً من الشراب، وشيئاً من السماع، وشيئاً من كل شيء، إلا شيئاً من (أبو صيام)، ثم ينصرفون!

وبينما الفريقان كل مشمر في عمله، مُجِدٌّ في سعيه؛ هذا في مطبخه، وذاك في زينته؛ كان (أبو صيام) يخرج رأسه من كوة حجرته فينظر صنيع هؤلاء وهؤلاء فلا يزيد على أن يقلب يديه، ويهز رأسه، ثم يتبسم وينصرف إلى صلواته وترنيماته، وينصرف القوم إلى تأويل نظراته وابتساماته فيهم، فيذهبون في تأويلها مذاهب الحب والرضى والإقرار لهم بصنيعهم، فيزدادون فيه نشاطاً وعزماً وجداً.

وصنف ثالث من القوم غير أهل الطعام، وغير أهل الزينات، قد اجتمعوا فرأوا (أبو صيام) وأصحابه قد حبسوا أنفسهم للعبادة، وأنصبوا فيها أبدانهم، وشغلوا بها قلوبهم، فتشاوروا وأجمعوا أمرهم على أن يرفهوا عن هؤلاء العُبَّاد ويروِّحوا عنهم، فأقاموا سرادق عظيماً كان كالدهليز بباب (أبو صيام)، وجعلوا عن يمينه وشماله مجالس المؤانسات، والمعزوفات، والمراقصات، فمن أراد دخولاً أو خروجاً إلى الصومعة كان لا بدَّ له من مُلَابَسَة المجلس وأهله داخلاً أو خارجاً، فمنهم من كان يجتاز مسرعاً متجافياً عنهم إلى مطلوبه، ومنهم أصحاب مذهب ساعة وساعة، فكان أحدهم إذا فرغ من صلواته عند (أبو صيام) خرج فجلس عند القوم يسمع ويسامر ويراقص، ومنهم من كان هذا السرادق هو حظه من الموسم، لا حَظَّ له ولا مطلوب غيره، فإن ظفر به فهو غنيمته. وأهل هذا المحفل شأنهم في الموسم كشأن أصحابهم السابقين؛ يقيمون على ذلك أسبوعاً تاماً لا يشغلهم من أمر الموسم ولا أمر صاحبه إلا حفلهم وسرادقهم.

إقرأ أيضاً: كيمياء الزمن

وهكذا أفضت الأيام بالقوم أن توزعتهم طوائفُ أربع: أهل الأكلات، وأهل الحفلات، وأهل الزينات، والطائفة الرابعة هي (أبو صيام) ومن تبعه ممن لم تصرفه الشواغل، وهؤلاء كانوا الأقلون عدداً، الأقربون منه منزلة.

فلما طال ذلك على (أبو صيام) وشقَّ عليه ما رآه من تبديل القوم موسمه إلى مولد وسوق ومقهى، ثم نسبتهم كل ذلك إلى اسمه، صعد يوماً فوق صومعته ونادى فيهم :"لغير هذا كان الموسم، لغير هذا كان الموسم، لغير هذا كان الموسم"، فلا يجيبونه بغير: "بل بهذا نحبك ونكرمك، يا سيدنا"، فحينئذ علم وأيقن أنَّ القوم غير القوم، فأجمع مفارقة هذا الجوار، وعزم الهجرة عن هذه القرية، وأَسَرَّ بذلك إلى طائفة من خلصائه وأتباعه، وأخبرهم بمهاجره الذي أزمعه، وأخذ عليهم العهد ألا يذيعوه إلى صاحب طعام، أو طالب لَهْوٍ؛ لئلا يفسدوا عليه مقامه الآخر كما أفسدوا مقامه الأول، فعاهدوه وانصرفوا نصف محزونين لمفارقة الرجل جوارهم، ونصف فرحين أنهم أمناء سره الذين اختصهم به من دون القوم.

إقرأ أيضاً: يمام رمسيس

قلت لصاحبي: فنحن فى أسبوع الموسم، وعلى زعمك قد هجر (أبو صيام) قلَّايته، وطلابه عنده فى مُهاجَره الجديد، فلمن دُقت هذه المعازف؟! ولمن بُسِطت هذه الموائد والمآكل؟! ولمن أضيئت هذه المصابيح؟!

فقال صاحبي: ومن أخبرك أن هؤلاء قد جاؤوا (لأبو صيام)؟! ثم قالها بالعربي الفصيح: الموسم عند هؤلاء ليست صلوات (أبو صيام)، ولا تسبيحات (أبو صيام)، بل محفل سنوي يجتمع فيه القوم للطعام والشراب والتجارة والترفيه، فماذا يضيرهم غاب (أبو صيام) أو حضر؟! بل غيابه يرفع عنهم الحرج فينبسطون إلى ما كانوا من قبل يتحرجون منه في حضرته. ثم قالها بالأعجمي الصريح: (فولكلور) للبهجة والأنس، ثم أرسلها بالمصري الشعبي: "مولد وصاحبه غايب"!