تعتبر السينما صناعة رائجة وجاذبة في نقل صفحات من التاريخ بصور مشوقة دون التلاعب في الحقائق والوقائع التاريخية، فالتاريخ ملك الجميع حتى الأطراف المتضررة من تاريخ قد يكون قبيحاً ومزعجاً ومنفراً لبعض الأطراف، ومنشطاً وجاذباً ورائعاً لأطراف أخرى تبحث عن الحقيقة غير المبتورة.

المجتمع الغربي، يعتريه التناقضات والتجاذبات في البحث والرواية للتاريخ، ولكن بيئة العمل الأكاديمي والإعلامي والسياسي والبحث والتنقيب والتوثيق تستوعب جميع الآراء والأيديولوجيات والنظريات والأديان والمعتقدات على خلاف المجتمع الشرقي!

"حياة واحدة"، One life ، فيلم سينمائي جاذب للممثل انتوني هوبكنز الذي اشتهر بالأبداع الموسيقي والتجسيد الرائع في مختلف الأدوار التي قام بها طوال فترات عمره الفني، فقد كان إضافة ثرية للفيلم في التمثيل والتعبير بصدق عن مواقف إنسانية وثقها التاريخ.

أكثر من 600 طفل انتقلوا من قلب محور الأحداث النازية في مدينة براغ إلى العاصمة البريطانية لندن وعاش هؤلاء الأطفال بين أسر بريطانية مختلفة مع الاحتفاظ ببيانات الوالدين والهوية الأصلية لدى كافة الأطراف المعنية قبل وبعد انتهاء رحلة الانتقال الشاقة والمروعة.

عملية نقل الأطفال كانت منظمة للغاية، أشرف عليها المواطن البريطاني "نيكي ونتن"، NICKY WINTON الذي نذر حياته من أجل انقاذ الأطفال من شر الحروب والتشريد واستجابت السلطات البريطانية في الاستقبال والترتيب تحقيقا لهدف إنساني لا علاقة له بالدين ولا السياسة.

ترجم فيلم "حياة واحدة" سينمائياً قصة حقيقية عن سيرة ذاتية لمواطن بريطاني، "ويتني"، الذي عمل وسيطاً مالياً في لندن وكابد معاناته الشخصية ومواقف واحداث سارة ومبكية بجمالها ومشاهد مؤلمة وقاسية على النفس البشرية.

دون شك، يحفز العمل السينمائي لفيلم "حياة واحدة" الجدل السياسي والتاريخي والإعلامي بهذا الوقت تحديداً بسبب الظروف المأساوية التي يكابدها الفلسطينيون في غزة وهو حق مشروع، ولكن تظل الحقيقة التاريخية للقصة ذات أبعاد ودوافع إنسانية لا علاقة لها باليهود والدين.

العالم الشرقي والعربي والإسلامي خاصة تقوده العاطفة والتشنج والانفعال مع الأحداث السياسية خارج نطاق العقلانية والموضوعية بالتفكير والتحليل لذلك قد تخضع الحكومات الهشة لأهواء جماعات ترفض التعامل مع التاريخ باحترام لتسلسل تطوراته واحداثه وقد يكون القرار بحظر عرض فيلم، "حياة واحدة".

تطورات ذات علاقة مباشرة بالانفعال والتشنج والعاطفة لدى بعض المسلمين البريطانيين تعكسها بوضوح حالة التأييد السياسي والبرلماني الذي حصده السياسي البريطاني جورج غالاوي الذي كثيرا ما استنفر الجدل حوله دون نظرة واقعية من جماهيره ولا زيارة موضوعية للتاريخ الحديث جدا!

منح مسلمو بريطانيا ومناصرين لهم النائب العمالي السابق جورج غالاوي الثقة السياسية لأنه ببساطة رفع راية "غزة" إعلامياً وعاطفياً وشن الهجوم على رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، حزب المحافظين، دون الرجوع لمواقفه اثناء الغزو العراقي للكويت ولا تأييده لطاغية بغداد صدام حسين!

وثق التاريخ السياسي والإعلامي الحديث جداً مواقف جورج غالاوي المؤيدة للقادة العرب الذين طغوا في الحكم، ولكن بعض فئات المجتمع البريطاني والمسلمين خاصة اكتفوا بالصوت العالي والشكلي مع "غزة"، في حين صرفوا النظر عن العلاقة السياسية مع رموز الديكتاتورية والطغيان!

ظاهرة إسلامية تتكرر عربياً واسيوياً من دون تعلم الدروس من التاريخ البعيد والقريب أيضا بسبب قبول طوعي بعلاقة عاطفية من الحب والكره في شؤون سياسية غير معقدة المنشأ والتطور!

لا يشفع البحث العلمي ولا التقصي الإعلامي المهني للمنقبين عن المصداقية والجاديين في البحث في ينابيع تاريخ الإنسانية لأن هناك ذاكرة انتقائية تكره وتحب كما تشاء وليس كما وثقه التاريخ!

الوهم والكذب... صناعة رائجة في عالم تتحكم فيه العواطف ويسود فيه النكران للواقع وتحدياته وتشوهاته!

*إعلامي كويتي