طوال كل العصور التي عاشتها بلاد وادي الرافدين، ماضيها وحاضرها، لم يشهد العراق تردّياً في آدابه وفنونه كالتي نراها اليوم؛ فحتى العصور المتأخرة التي سميت بالفترة المظلمة التي تلت أواخر العصر العباسي، وتعاقب دويلات الأعاجم والقبائل غير العربية الغازية التي حكمت بلادنا، إلى ما قبل العصر الحديث، لم تكن بالمستوى المتدني الذي نلحظه الآن، حيث ظهرت في تلك الفترة السالفة بعض علاماتٍ مضيئة وإشارات إبداعية ضمن ذاك الخضم الهائل من الغثّ في النتاج الأدبي والفني.

ففي بلدٍ عريق موغل في القدم مثل وادي الرافدين، والذي أنجب ملحمة كلكامش والأناشيد السومرية وولدت فيه أقدم مكتبة في ربوع آشور وأكّـد، وهي الآثار الأدبية الخالدة، الذي علّم العالم القديم أصول الرقيّ في التفكير، واستهدى الإغريق والرومان بنتاجه الثرّ الواسع الأفق، وخطَت الإلياذة والأوديسا خطى ملحمة كلكامش، وفي ثراه الغنيّ ولدت الكتابة المسمارية في معابده وصروحه، فمن الصعب جداً أن نصدّق أن يؤول حال الثقافة الواهن والضعف والهزال الذي أصاب عقل الإنسان العراقي وريث بابل وسومر وآشور وأكّد، ويحزّ في النفس أن يغرق الكثير من العراقيين في مستنقعات الجهل وهشاشة الفكر، وتزداد الأميّة بهذه النسبة المخيفة، وينحدر التعليم إلى مستويات مفزعة تثير الأسى.

ومثلما يتدهور الوضع السياسي، وهو الانعكاس الدقيق للوضع الثقافي العراقي، فهناك شرائح سياسية من غلاة الدين التي تحكم الآن مؤسساتنا الثقافية لا تريد أن يرقى الفن إلى مدارج عالية باعتباره "حراماً"، ويظنون بخطلٍ واضح أنَّ السينما مبعث للفساد الأخلاقي، وأنَّ المسرح يلهي الإنسان عن ممارسة عباداته بحيث ينسى المرء خالقه ويلهو بسحر الفن ويضيع في متاهات إبداعه، وكذا الأمر في اللوحات التشكيلية باعتبارها خربشات شيطانية تعمي بصر الإنسان وتفقده بصيرته، وكذا الأمر في التماثيل والأعمال النحتية، لأنَّ الاعمال النحتية وفق وجهة نظرهم المسطحة الفارغة تنافس الله في مخلوقاته، وهذه كلها تخرّصات غير سليمة، وتنمّ عن جهل فاضح بدور الفن والأدب في تغذية عقل الإنسان، وصقل مشاعره، وتطهير روحه من شوائب الجهل، وإدراك الجمال والإنصات إلى الموسيقى والغناء الراقي لإزالة ما تراكم من كدَر الحياة وإبعادها عن المنغصات التي تؤذي الإنسان، وتجعله حجراً صواناً فيما لو ابتعد عن الفن والأدب ومراميه التي تهدف إلى خلق المتعة والفائدة، والارتقاء بالبشر إلى صفاء الإنسانية وسموّها الاخلاقي، والثقافة عموماً تعمل على توثيق الجمال وتبرز حلاوته وبهجته.

وفي سنوات الثلاثينيَّات والاربعينيَّات من القرن الماضي، كانت الحركات التجديدية الثقافية تبدأ من العراق وتنطلق إلى بقية العالم العربي، كحركة التجديد التي تزعمها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي في الشعر العربي، وولادة الشعر الحرّ، وفي نفس الفترة انطلقت أيضاً الحركة التجديدية في الفن التشكيلي، وكان رائدها جواد ونزار سليم، مع بقاء العمود الشعري منتصباً شامخاً بيد شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، وقبله معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، ولو عدنا إلى الوراء أيام زهو العراق، كان زمام الشعر بيد أبي الطيب المتنبي، ابن الكوفة المعطاء، والبصرة ابنة العراق النجيب أول من ابتكرت علم أوزان الشعر العربي على يد الخليل الفراهيدي. فما الذي تغيّر ونحن نرى اليوم التراجع الكبير لبلاد ما بين القهرين حتى نكون في أسفل السلالم بل في أعمق أعماق القيعان؟!

لسنا نصدّق أنَّ الانحدار والتدهور الثقافي سببهُ العولمة، فكل أقطار العالم واقعة تحت تأثيرها، ولكنها حافظت على موروثها الثقافي وبقيت تصون هويتها وتحدد معالمها بشعرها ونثرها وفنّها وعاداتها وتقاليدها وإرثها الحضاري.

نحن مَن وأدْنا ثقافتنا وقتلنا إبداعنا حين خضعت ثقافتنا لسنوات حكم دكتاتوري صارخ وكُمّمت أفواهنا وضيّق الخناق على نتاجنا الأدبي والفني وحوربت حرية التعبير. ثمّ جاء الاحتلال الأميركي في العام 2003 ليزيد الطين بلّة، فانفلت حبل الثقافة وانكفأ المبدعون في بيوتهم وانعزلوا عن الساحة الفنية والأدبية، وأتيح لكل من يمتلك ثقافة مسطّحة بسيطة مسؤولاً ثقافياً كبيراً يجرّ وراءهُ زمرةً من المتثاقفين ويمنحهم كل بضعة شهور منحاً مالية من خزائن شعبنا المتعب، وفتحنا أبواب مؤسساتنا الفنية والأدبية على مصراعيها لهذا وذاك من بغاث الوعي وضعاف الكلمة، وصارت المؤسسات الثقافية والفنية مرتعاً للصغار وضيّقي الأفق والمحسوبين على الإبداع حشراً، ومعظمهم ممن تربّى وتعلمَ في أحضان سلطة الحزب الواحد وتسلّطوا بغمضة عين وصاروا أسياداً للإبداع وقادةً للفكر الذي خبا بسبب وجودهم بعدما كان زاهياً مشرقاً طوال العصور الماضية، وكان لامعاً معطاءً حتى وقت قريب في سنوات الخمسينيَّات والستينيَّات وحتى السبعينيَّات من القرن العشرين، ومن المؤكد أن شمسه ستسطع حتماً ويبزغ فجر آخر جديد ما دام في العراق تاريخ حافل بالإبداع وحضارة عريقة خضراء من جنائن بابل ومن صحائف وكتب آشور التي كتبت بالرقُم المسمارية التي علّمت العالم الكتابة.

أعرف أنَّ الأوان لم يحن بعد للإرتقاء الثقافي والفني ببلادي الآن، لكنه حتماً سيرسخ لاحقاً ويعيد ترتيبه ويتم تجديده ولو طال الزمن على يد جيلنا المقبل أبناء الرافدين لأنهم خير خلف لخير سلَف.