هزيمة أوكرانيا هي السيناريو الكارثي الذي يخشاه أعضاء حلف "الناتو" منذ اندلاع الحرب، ولكن يبدو أن هذا السيناريو الشبح بات يلوح في الأفق بقوة في ضوء شواهد عسكرية عدة واضحة، ولكن التطور الأبرز ـ برأيي ـ يتمثل في تكاثر الحديث ـ تصريحاً وتلميحاًـ عن احتمالية هزيمة أوكرانيا بين المسؤولين والخبراء والمتخصصين الغربيين، حيث عاد الرئيس الفرنسي ماكرون محذراً من انتصار روسيا في حرب أوكرانيا، وحيث يشير البعض إلى أن تفادي الهزيمة بات مرهون بشكل كبير بإرسال قوات من الحلف إلى أوكرانيا رغم خطورة هذه الخطوة، بينما يرى آخرون أن الغرب لم يعد أمامه من خيارات سوى إرسال قوات للقتال أو الاعتراف بهزيمة أوكرانيا والتعامل معها بشكل واقعي.
الجيش الأوكراني يواجه معضلة نقص الأفراد والعتاد بعد سلسلة الهزائم الأخيرة، ومن الواضح أن تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بشأن عدم استبعاد إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا رغم عدم وجود إجماع أطلسي على الفكرة، لم تكن هذه التصريحات مجرد فكرة عابرة، بل عبرت عن توجه يتبلور بقوة داخل أوروبا، وتسبب في استقطاب حاد بين مؤيد ومعارض، ولكن الملاحظ أنه لا أحد يتساءل عن دوافع الاستعانة بقوات أجنبية لدعم أوكرانيا، بمعنى أن هناك توافق على أن كييف تعاني موقفاً استراتيجياً صعباً للغاية.
الأمر لم يقتصر على تصريحات الرئيس الفرنسي لاستنتاج حرج الموقف الأوكراني، فقد أكد مفوض السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إن نهاية الصراع في أوكرانيا ستتقرر في الأشهر المقبلة، لذا لا ينبغي على الغرب ألا يتأخر في تقديم المساعدة العسكرية لكييف، وأضاف بوريل "في هذا الربيع وهذا الصيف وحتى الخريف سيتم تحديد (نتيجة) الحرب في أوكرانيا"، وأوضح أنه ناقش خلال اجتماعات في الولايات المتحدة العواقب المحتملة لانتصار روسيا، وأشار إلى أن موسكو "لن تتوقف عند هذا الحد"، داعيا إلى الإسراع في تقديم المساعدة.
ثمة إشكالية أخرى تتمثل في توقف الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا، بسبب رفض الجمهوريين تمرير حزمة المساعدات العسكرية التي اقترحها البيت الأبيض، والأهم أن الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد أشهر عدة، ومن الوارد إعادة انتخابات الرئيس السابق دونالد ترامب، بكل ما ينطوي عليه ذلك من دلالات بالنسبة لأوروبا وحلف الناتو.
تقديرات انتصار روسيا لم تتوقف، حيث قال ويليام بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية العائد مؤخراً من أوكرانيا، في جلسة استماع أمام اللجنة الخاصة للاستخبارات بمجلس الشيوخ الأميركي، إن الوقت ينفذ لتقديم المساعدة، وأوكرانيا ستخسر مناطق كبيرة في عام 2024 إذا لم تحصل على مساعدات مالية وعسكرية كبيرة من الغرب، حيث يقدر بيرنز أن التمويل الأميركي الإضافي سيساعد نظام كييف على الصمود في عامي 2024 و2025، و"استعادة زمام المبادرة الهجومية" والتفاوض "من موقع قوة كبيرة". وزير الخارجية الهنغاري بيت سيارتو أعلن أيضاً أن أوكرانيا لن تنتصر في المواجهة مع روسيا مشيرا إلى أن الجيش الروسي يكتسب زخما على الجبهة، فيما قال دوغلاس ماكغريغور المستشار السابق لوزير الدفاع الأميركي أن استقالة نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند قد تشير إلى انسحاب وشيك للولايات المتحدة من أوكرانيا، وقال ماكغريغور: "من الواضح أنها اضطرت إلى الاستقالة. ويمكن اعتبار رحيلها إشارة إلى استعداد الإدارة للابتعاد عن كارثة أوكرانيا بهدوء وبأقصى سرعة ممكنة خلال الأشهر القليلة المقبلة"، وأشار إلى أن واشنطن قد تكرر السيناريو الفيتنامي في أوكرانيا، عندما تخلت الولايات المتحدة عن كل شيء وغادرت البلاد. وأضاف: "ندرك جميعا أننا سنغادر: ليس لدينا خيار، ولا نملك القوة العسكرية لمقاومة الروس في أوكرانيا، ولم نتمكن من ذلك أبدا".
والمعنى فيما سبق أن فكرة انتصار روسيا عسكرياً خرجت من طور التحليل والاستنتاجات وتحولت إلى معلومة تجري مناقشتها بشكل رسمي لاستباق عواقبها وتداعياتها المحتملة وللحد من تأثيراتها، لاسيما أن هذا السيناريو كان مستبعداً إلى حد كبير من جانب الغربيين في ظل تدفقات الدعم الكبيرة الموجهة لأوكرانيا.
الشاهد أن الغرب يجد نفسه في موقف حرج للغاية ينبغي أن يسرع فيه من حسم مسألة آليات دعم أوكرانيا، وتعزيز قدراته الدفاعية تحسباً لامتداد الحرب خارج أوكرانيا، حيث أكد بوريل أن "العديد من المحللين يتوقعون هجوما روسيا كبيرا هذا الصيف، ولا يمكن لأوكرانيا انتظار نتائج الانتخابات الأميركية".
الإشكالية الحقيقية بالنسبة لأعضاء الناتو الأوروبيين ليست في هزيمة أوكرانيا أو احتمالات تقسيمها أو كيفية التوصل إلى تسوية ما بشأنها مع روسيا، ولكن في عواقب الانتصار العسكري الروسي في أوكرانيا، وكيفية التعامل مع الكرملين بعد ذلك، وتأثيرات هذا الانتصار في مصير حلف "الناتو"، والعلاقات الأميركية ـ الأوروبية، وفشل أوروبا في توفير الأمن لنفسها بمعزل عن الولايات المتحدة.
الأمور تتجه إلى مزيد من الوضوح وتدفع باتجاه تسليم أوروبي واقعي بنتيجة الحرب، والواقع يقول إن إدارة الرئيس بايدن تسعى إلى تمديد أمد القتال في أوكرانيا حتى الاستحقاق الانتخابي، ولا ترغب في رؤية نتيجة حاسمة لمصلحة روسيا في الأشهر المقبلة، وبالتالي هي تريد منح قوة دفع جديدة للجيش الأوكراني حتى نوفمبر المقبل، ولكن تزايد فرص انتصار روسيا عسكرياً قد يدفع إدارة بايدن للبحث عن مخرج لحفظ ماء الوجه للتفاوض مع روسيا، بدلاً من وصولها إلى نصر عسكري كامل، قد يسهم في القضاء على فرص الرئيس بايدن في الفوز بولاية رئاسية ثانية، وهو مايفسر تراجع أو انحسار الخطاب الأميركي الخاص بهزيمة روسيا لا استراتيجياً ولا عسكرياً، وبات الحديث يتمحور حول أمور أخرى لا تتعلق بنتيجة الحرب.
روسيا من جانبها تدرك عمق المأزق الغربي، حيث التقط الرئيس فلاديمير بوتين الخيط مؤخراً والقى بالكرة في ملعب الغرب معرباً عن استعداد موسكو لإجراء مفاوضات جادة لحل النزاعات وخاصة في أوكرانيا بالوسائل السلمية، مبينا أنه لا يجب أن تكون هذه المفاوضات فرصة للعدو لإعادة التسلح، وأردف قائلا: "ما نريده، وأكرر مرة أخرى، حل جميع النزاعات، وهذا النزاع، وذاك الصراع، بالوسائل السلمية. ونحن مستعدون لهذا. ونريده"، وأكد الرئيس الروسي استعداد روسيا للمفاوضات بهذا الشأن على أساس الواقع الحالي على الأرض، وليس على أساس الرغبات بعد استخدام العقاقير النفسية. ما يعني أن روسيا التي انهكتها الحرب أيضاً تبدو أكثر ميلاً لتسوية سياسية شريطة تخلي الغرب عن شروطه والاقرار بالأمر الواقع وقبوله بدلاً من تعاظم الخسائر في حال استمرار القتال، ما يعني أن حلف الناتو بات في مواجهة اختبار مصيري خلال الفترة المقبلة.
التعليقات