ينبهر المشاهدون عادة بالدراما الواقعية وأبطالها، وبالأمكنة الطبيعية والمؤثرات الجمالية، التي توهم المشاهدين بأنهم جزء من تلك القصة، أو ربما عاشوا بعض أحداثها بطريقة ما، ولكن الدراما الحقيقية التي تبقى خالدة في أذهاننا حقاً، هي تلك المبنية على قصة قوية وسيناريو محبوك، وشخصيات متمكنة، تؤدي إلى الإمتاع الفرجوي والحسي، وإنعاش الخيال والعقل.

لا تحتاج الدراما، بالضرورة، إلى ترويض الكآبة أو إلى الإيغال في رسم السعادة الزائفة، بل يمكن أن تتسم بأسلوب احترافي متقن، يوازن بين الحزن والبهجة في طرح القضايا، وعلى نحو يمتع الكبار والصغار، ويعزز قيم التسامح والتعاطف وحبّ الخير للغير، ويشجع على الإبداع والتفكير خارج الصندوق. علاوة على أنه يمنح المشاهدين، مجموعة من التجارب والأفكار والتصورات والسيناريوهات، التي قد ينتقون منها الخيارات الأكثر معقولية بالنسبة لهم، ليسيروا على دربها.

أعتقد شخصياً أننا في حاجة إلى "دراما واعية" ومستنيرة لا تعاملنا على أننا كائنات غير واعية، تضحك على ما يبكيها وتبكي على ما يضحكها، أو مجرد مستهلكين مبرمجين على حب الابتذال والرداءة.

أمام الكم الهائل من الدراما التلفزيونية الذي ينتج سنوياً، من المهم أن تكون الثقافة الدرامية، ثرية وقوية ومتعددة القضايا والأفكار، بل ومتأقلمة مع حقيقة أننا كائنات عاقلة، وفي جميع الحالات، يجب أن يتوقف المخرجون عن استبلاه عقولنا.

هناك شعور سائد لدى أغلب المشاهدين، اليوم بأن الدراما العربية قد أصبحت في معظمها، تنحدر نحو الذوق الرديء، وغابت عنها الحرفية تماماً وحلتّ محلها السطحية والتكرار، وبالرغم أن الكثير منها قد يصور قبل العرض، على أنه عمل عبقري، لكنه في الحقيقة في غاية الابتذال والسذاجة، غير أن ذلك لا يجب أن يمنعنا من الإشادة بالجهود والإبداعات الدرامية التي ما زالت موجودة على الساحة.

من خلال متابعتي لبعض الأعمال الدرامية التي عرضت على الفضائيات العربية خلال شهر رمضان المنصرم، لفت انتباهي مسلسل "خيوط المعازيب" السعودي للمخرجين عبد العزيز الشلاحي ومناف عبدال، فهو عمل نابض بالحياة، وقوي بالمعنى الحرفي للكلمة، وأكثر من مجرد مسلسل للتسلية والمرح.

إقرأ أيضاً: تونس تحتاج سياسِيين لا عبثيين!

عندما أنظر إلى الجدية المرهفة للأبطال والحوارات المليئة بالدلالات، وحرفيتهم في أداء الأدوار، ولهجتهم النقية وطريقة تجسيدهم للأحداث، أشعر بشيء حقيقي من تفاصيل حياة قرية "المعازيب"، فقد بدا الفنان عبدالمحسن النمر، متسقا تماماً مع شخصية "بوعيسى"، المُهيمنة أو المسيطرة على الناس، وبقدر ما صدم "بوعيسى" المشاهدين بانتهازيتة، إلا أنه كان شخصاً واقعياً حقيقياً، على نحو أشعرنا كمشاهيدين أننا نمقته، بينما لا نعلم عن سلوكياته في الواقع أي شيء تقريباً.

أما إبراهيم الحساوي فقد أبرز جزءاً مهماً من الهوية التاريخية للأحساء، التي كان سكانها في ستينيَّات القرن الماضي يعيشون على حياكة "البشوت" اليدوية، وصوّر عمق معاناتهم، بتجسيده دور جاسم الذي يحاول التعامل مع ضغوط الحياة، عبر محاولة ضبط النفس والتحمل في مواجهة الشدائد، وهو ما جعلنا بالتبعية نتعاطف معه ومع سكان "المعازيب".

إقرأ أيضاً: ثروات "سبام" ولا في الأحلام

وبدت البطلات في المسلسل كما لو أنهن طَوَّعن شخصياتهن، لطرح قضية أعمق، لم يكن قد بدأ طرحها سوى من جانب عدد محدود للغاية من نساء الاحساء في ستينيَّات القرن الماضي وهي: ما الذي يمكن للمرأة المتعلمة أن تفعله مستقبلاً؟

وبفضل ما تحلى به جميع أبطال المسلسل من مزيجٍ نشط من الحرفية العالية في الأداء والذكاء في تقمص الشخصيات، كان هنالك الكثير من الأشياء التي أفعمت المشاهدين بكل عناصر الإقناع المرئية والحسية تقريباً.

أعتقد شخصياً أنَّ "خيوط المعازيب" أفضل عمل عربي أنتج خلال هذا العام، وعند التفكير في تصنيف الأعمال الدرامية العربية لشهر رمضان، أجد أن المسلسل يعتبر قطعاً معلماً أساسياً في صناعة الدراما.