لا تتحدّدُ قيمةُ المرء بما يحقِّقُه من نجاحاتٍ وما يقدّمُه من إنجازاتٍ خلال مسيرته الحياتية فحسب، بل بامتداد هذه الإنجازات وتألق تلك النجاحات بعد رحيله، فيكون المقياسُ المُبِين لتقييم المرء ماثلاً فيما يخلّفه من آثار متجدّدة وتأثيرات متمدّدة في الخالِفِين، يجري كل ذلك وفقاً للمعايير التي بناها والتوجهات التي ارتآها والمنظومة القِيَميّة التي نسجها. وهذا ما نلمسه حقاً في الإرث الإعلامي العالي الذي تركه سُموُّ الأمير أحمد بن سلمان بن عبد العزيز لخالِفِيه من أهل الصحافة، ورجال الحَصافة، وشُداة الفصاحة، لتكون أقلامُ الإعلام سُفَراء الأخبار الحَـرِيَّة بالحُـرِّيّة والاحترام والمتابعة.

شخصيته وتكويناتها
وُلِد الأمير سنة 1958م، عندما كان والده أميراً للعاصمة الرياض، ونشأ في جوّ ممزوج بالعلم والعمل، وكان لهذه النشأة في هذه البيئة النوعية دور كبير في تكوين شخصيته ورسم ملامحها وتعميق سماتها، فكان رجلاً صالحاً له من المواقف الإنسانية النبيلة ما يوجبُ على المرء تقديرَه، محباً فعل الخير، ساعياً لخدمة بلده، وهذه صفات كفيلة لتجعل من الشخص قدوة لغيره.

ومما أسهم في تكوين شخصيته إضافة إلى بيئته الأُسَريّة أسفارُه في طلب العلم إلى أقاصي الأرض، حيث تكثفّت شخصيته، وتعمّقت تجربته، وتوسّعت رؤاه، وترامت أبعادها وآفاقها، ولعلّ أهم تجربة في سفره كانت سنة 1974م، عندما توجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة اللغة الإنكليزية تحضيراً للالتحاق بكلية وونتورث العسكرية التي تلقى فيها علوم الحرب حتى تخرج فيها برتبة ملازم أول.

ومن الجدير بالذكر أن انخراط الأمير في السلك العسكري لم يكن نابعاً من رغبته الذاتية في هذا التخصص، بل كان انخراطُه برّاً بوالده الذي تمنى أن يكون أحد أبنائه عسكرياً، فلبّى أمنية والده، ولم يبرح في هذا المجال حتى عام 1985م، إذ تقاعد برتبة نقيب، وتوجه شطر الصحافة والإعلام ذلك التخصص الذي كان به شَغوفاً.

اهتمامه بالصحافة والإعلام
إنَّ المتتبِّعَ للقرارات التي اتّخذها الأميرُ قبل تفرُّغه وخوضه في غِمَار عالم الصحافة والإعلام يجدُ أنّ تحوله من العمل العسكري إلى العمل الإعلامي لم يكن من قبيل المصادفة، كما أنه لم يكن وليد اللحظة المحضة، ولم تنبجس فكرته فُجاءة، بل كمنت وراءه إرهاصات كثيرة؛ فقد بزغت بواكيرُ مُيوله للإعلام منذ نعومة أظفاره، واستوتْ على سُوقها عندما بلغ أشُدَّه، ولا بد أن ذلك متصلٌ بسببٍ بالبيئة الأُسَريَّة التي ترعرع فيها، فكانت نشأة الأمير في بيت علم يحفل بالإعلام، ويمنحه جانباً كبيراً من الاحترام ومساحة طيبة من الرعاية والاهتمام؛ فوالده الأمير سلمان شُهِرَ باهتمامه بهذا المجال، وإيلائه رعاية خاصة، إذ عُرف عنه أنه أَوْلى قطاع الصحافة والإعلام والطباعة المحلية والعالمية كثيراً من عنايته واهتمامه، وكثيراً ما غصّ مجلسه برؤساء التحرير والإعلاميين والناشرين.

ومن ثَمّ، أصبح الأميرُ أحمدُ امتداداً منطقياً لوالده في هذا المجال، فكان يُطالع ما يصدر من مطبوعات عن الشركة السعودية للطباعة والنشر، المُنشَأة سنة 1972م، وهذا يعني اهتمامه بالإعلام قبل التحاقه بالسلك العسكري بنحو سنتين تقريباً.

لم تقتصرْ عواملُ اهتمامه بالإعلام على التربية الأُسَرِية فحسب، بل تعمَّقت أكثر خلال رحلته العلمية الثانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1981م، إذ ارتحل مع آلاف الشبان السعوديين لطلب العلم، ووقع اختيارُه على دراسة الثقافات المقارنة، في جامعة كاليفورنيا، وكانت تجربةُ الأمير الطَّمُوح هذه أحدَ أسباب اهتمامه بصناعة الإعلام، وقد أكسبته هذه الرحلةُ العلمية اكتشافَ أهمية الدور الذي تؤديه الصُّحُف والإعلام في تعزيز سياسات بلادها وتأثيرها في المتلقي.

كان الأمير يراقب بعينٍ فاحصةٍ باحثةٍ عن التعلم والفائدة لكل ما يحيط به، فاجتمعت له قوة البصر ونفاذ البصيرة، فاستلهم التجارب الناجحة ساعياً إلى نقلها إلى بلده، وهذا مؤشر واضح على ذكائه وشدة انتباهه إلى التفاصيل، وامتلاكه زِمام مَلَكة التصوُّر الشامل لأبعاد الظاهرة، والأهم من ذلك أن هذا مؤشر قوي على حبه لبلده، ووضعه مصلحة وطنه نُصبَ عينيه في كل خطوة أو اكتشاف جديد يتوصل إليه.

مشروع العمر
في عام 1989م، تولى الأمير رئاسة مجلس الإدارة للمجموعة السعودية للأبحاث والتسويق (SRMG)، أكبر شركة إعلامية في العالم العربي، ومثَّلَ هذا الأمرُ حدَثاً مَفصِلياً ومنعطفاً تاريخياً كبيراً في مسيرته العملية، انعكس على نفسه وعلى المجموعة إيجابياً، إلى أن أصبح أباً للكثير من الإعلاميين الذين صاروا خلفاءه في الإعلام، ولم يتأتَّ له النجاح بَغتةً بين عشيةٍ وضحاها، وإنما عبر طبقات متآزرة من تراكمات الخبرة، بعد قِراع جملة من التحديات والتغلب عليها، ولعل من أبرز عوامل نجاحه في المشروع ما يأتي:

1. مواكبة المستجدات في سوق العمل، وإدخال أحدث التقنيات، وهذا دليل على مرونة التفكير.

2. الجرأة في اتخاذ القرارات المصيرية، بعد الوقوف على أرضية صُلبة، تسبقها دراساتٌ استقصائيةٌ مكثفةٌ للمرحلة المقبلة التي ستعقب القرار الجديد، تجنباً للعواقب السلبية.

3. عدم ممارسته لسلطته بوصفه أميراً على زملائه في العمل، وهذا واضح من خلال خلق هامش واسع لهم للتحرك فيه، وممارسة النقد البناء، والاعتراض على بعض القرارات ومراجعته فيها، وهذا مقياس لالتزامه مبدأَ الشفافية، وعدم التدخل بالشركاء والمساهمين، ومنح رؤساء التحرير صلاحياتهم القانونية الكاملة، بعيداً من الأنانية.

4. كانت تنطوي سريرتُه على رغبة مكبوتة في صناعة الشخصية القدوة، عبر بثّ رسائل توعوية وتربوية غير مباشرة، فمارس دور المربّي والموجّه والمعلّم لمحيطه.

5. أسهم الأمير في تطوير كفاءة العاملين في الشركة، وجعل شعارَ الشركة التميُّزَ في كل شيء، واعتنى بالتفاصيل، فاستقطبت المجموعة أفضل الكفاءات الإعلامية والإدارية، واهتم بمطبوعات السياسة والاقتصاد والرياضة وغيرها، واستطاع تحويل صحيفة الشرق الأوسط إلى مؤسسة ثقافية تنويرية، وفتح الباب أمام الشباب السعودي الطموح لتسلم مناصب.

6. لم يُغفِل أهمية الإعلام في تشكيل الرأي العام، وعمل على صون الأهداف الرئيسة التي أُسِّست الشركةُ من أجلها، فكان حارساً لمبادئها وخطوطها العريضة والحمراء.

7. سعى إلى أن يكون توجه المجموعة حيادياً موضوعياً غير منحاز، يقف على مسافة واحدة بين جميع الأطراف.

8. لم يكن طرفاً في أي مشكلة تنشب في المجموعة، بل كان طرفاً في الحل، وكان يحترم الصداقات، ويناقش المعترض حتى يلتقي معه في نقطة تفاهم.

إن الأمير صنع الجوّ العام السائد بين العاملين في المجموعة، وهندس نظام العلاقات القائمة بين الجميع، حتى نجحت المجموعة في التعامل مع الأزمات، كأزمة العراق والكويت مثلاً، وأوصل المجموعة إلى برّ الأمان.

رؤيته
إنّه لمن مظاهر الإنصاف في هذا الصدد أن نعرِّجَ على رؤية الأمير وآفاقها من حيثيات متنوعة، وننوّه بطريقة تفكيره التي أثمرت عن هذه الرؤية، ويتجلى كل ذلك من خلال تشريح النقاط الآتية:

1. النظر إلى الأمور من مكان مرتفعٍ حتى تكون الرؤية لَبُوساً تامّاً للموضوع، كما لو أنها عباءة تستر جسد التجربة، وتغطي مساحتها، وتغوص في أعماقها، وتؤطر أبعادها بنحو تام، ومن ثم تتسم نظرته بالشمولية والموضوعية والتكامل وامتداد الأفق، وهذا من شأنه أن يثمر قرارات حكيمة ورصينة يسهل على المجتني قطافُها من شجرة المشروع.

2. المواظبة على تحديث رؤيته، وتجديدها، وتعديلها، وتكييفها، وتصحيح مسارها بين الفينة والفينة، تبعاً لما يستجد في المشهد الإعلامي، ويطرأ في الساحة المحلية والدولية.

3. هندسة الرؤية بطريقة تمكّن من تحويل الفكرة إلى مشروع، والانتقال بالمفهوم من الذهن إلى الواقع، ولا أدلّ على ذلك من أنّ رؤيته الإعلامية تجسّدت بعد وفاته في إنشاء "أكاديمية الأمير أحمد بن سلمان للإعلام التطبيقي"، تُخرِّجُ المئات من السعوديين للعمل في الصحافة والتلفاز، وفق معايير توافق توجُّه الأمير في صناعة الإعلام.

4. سعى الأمير إلى إثراء رؤيته الإعلامية عبر توسيع دائرة اهتماماته ونشاطاته في مختلف المجالات، كالرياضة والفروسية وتربية الخيول.

وخلاصة القول: يمكن أن نستنتج بسهولة عبر قراءة شخصية الأمير أنه سعى إلى ربط إنجازاته بوطنه، فرأى نجاحه نجاحاً لوطنه. وفي صيف عام 2002م، رحل الأمير باكراً عن عالمنا، بعد معاناة مع المرض، عن عمر (43) عاماً، فكان الخبر فاجعةً رجّت قلوب الجماهير تاركاً وراءه منظومة من قيم الحب والإخلاص والوفاء، ودروساً لطلاب التميُّز والنجاح، وترك أثراً طيباً في كل من عرفه، وقدوة لتعامل الرئيس مع مرؤوسيه، وكان مثالاً للإعلامي والإداري الناجح، ومصدراً لفخر الإعلاميين، رحمه الله تعالى.