في عام 1961، غطت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، كصحفية، محاكمة أحد رموز النازية ويدعى أدولف إيخمان في القدس. لاحظت أرندت أنه لم يكن وحشًا أو مجرمًا شريرًا بالمفهوم التقليدي، بل على العكس، وجدته شخصًا عاديًا، بيروقراطيًا يتبع الأوامر دون تفكير نقدي أو أي إحساس بالمسؤولية الأخلاقية. لم يكن لديه دافع شخصي لارتكاب الجرائم الكبرى، بل نفذ الأوامر بناءً على تعليمات النظام النازي.

وفي عام 2020، اهتزت بغداد على وقع خبر إقدام شاب على قتل دكتورة صيدلانية وذبح والديها، مبررًا جريمته بوجود معرفة بسيطة مع رب الأسرة بحكم عمله بالقرب من منزلهم، وأنه قد طلب من الوالد مبلغًا ماليًا وجوبه طلبه بالرفض! لم تكن فكرة القتل متأصلة في سلوك هذا الشاب الذي تردد على الأسرة المنكوبة لفترة تجاوزت خمس سنوات، ولكنها تولدت نتيجة رغبة آنية وغياب كامل للوعي بارتدادات الجريمة وأبعادها الأخلاقية.

ونسمع بين الحين والآخر عن وقوع حوادث عنف يقوم بها أشخاص عاديون لم يسبق لهم أن ارتكبوا جريمة أو فكروا في أعمال عنف، لكنهم تحولوا إلى أشرار بشكل مفاجئ. وهي ذات الفكرة التي طرأت على ذهن أرندت أثناء محاكمة أيخمان ودفعتها إلى صياغة مصطلح "تفاهة الشر". أشارت أرندت إلى أنَّ الشر يمكن أن يُرتكب من قبل أشخاص عاديين تمامًا، ليسوا مجرمين بالفطرة أو أشرارًا بشكل جوهري، بل هم أشخاص يفتقرون إلى القدرة على التفكير الأخلاقي العميق، ويطيعون الأوامر دون التساؤل عن نتائج أفعالهم. هؤلاء لا ينفذون الجرائم بدافع الكراهية العميقة أو الشر، بل من خلال الطاعة العمياء للقوانين أو التعليمات أو الحاجات الآنية "المتخيلة"، بعيدًا عن الوعي بعواقب أفعالهم على الآخرين والمجتمع.

إقرأ أيضاً: الذاكرة أم العودة إلى الزمن الجميل؟

قدمت أرندت أطروحتها عن "تفاهة الشر" في كتابها "إيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر" عام 1963، ولفتت الأنظار إلى تحليل جديد للشر ليس مستندًا إلى الكراهية الشديدة أو الشيطانية العميقة والمتأصلة، بل إلى التفاهة والعادية والغرائزية. تفسر هذه النظرية إلى حد كبير الجرائم التي وقعت في المجتمعات المتعددة دينياً وطائفياً والتي مرت بفترات طويلة من التعايش، تلتها فترات من الاضطراب الأمني المفاجئ وغياب الدولة، كما حدث في الموصل وبعض المناطق المحيطة بها أثناء هجوم داعش، حين استقوى فجأة بعض الأشخاص على جيرانهم ومعارفهم وارتكبوا الجرائم تحت هذه الظروف.

إقرأ أيضاً: إيران وتحدياتها الجيوسياسية المعاصرة

وفقًا لهذه النظرية، يمكن أن يكون المجرم أي فرد مندمج في مجتمعه إذا تراجع وعيه وغاب تفكيره النقدي إلى درجة تضعف فيها قدرته على التأمل في القيم والضوابط، ما يتيح للغريزة والتوحش أن يسيطرا على سلوكه.