لست من محبي الهجرة عن الأوطان، ولا مفارقة الأهل والخلان، لكن لو بدا لي يومًا فبدَّلت هواي، وحدثتني نفسي بهجرة فسيكون مما يستفزني للخروج من وطني إلى وطن جديد هو ذلك الصيف المستمر، والقيظ المتتابع، والهواجر المشتعلة، والرطوبات المتثاقلة، فليس جَوُّنا اليوم كما زعمت الأغنية من قبل:

حلاوة شمسنا

وخفة ظلنا

الجو عندنا

ربيع طول السنة

وأي (خفة ظل) تبقى لأحدنا مع صيف طويل متطاول، ثقيل متباطئ، مرتفع الرطوبة، مرتفع الحرارة؟! وأي شىء بقي من (حلاوة شمسنا) إذا كان أحدنا يتوارى من حرها في شتاء كانون الثاني (يناير)؟! بل أي (ربيع) ذلك الذى يبقى (طول السنة) مع هذه الحرارات والرطوبات الثقال؟! بل لو غُنِّيت هذه الأغنية اليوم لكان ينبغى أن تكون:

حرارة شمسنا

وضيقة خُلْقنا

الجو عندنا

صيف طول السنة

وليس الأمر كما يزعم أهل الأرصاد الجوية في كل صيف أن موجة حارة تضرب البلاد مدة كذا وكذا يومًا، بل لو أنصفوا لقالوا تسونامي حار رطب يُغرق البلاد! وهذا بعض الإنصاف، فإن التسونامي حين يضرب يرجع، أما هذا التسونامي الحار الرطب فلا ينقضي بانقضاء الساعات، ولا الأيام، ولا الشهور! لكنه مقيم ما أقام الصيف، ومعلوم أن الصيف أيام (حلاوة شمسنا) كان ثلاثة أشهر، تبتدئ في النصف الشمالي من يوم 6/20 وتنتهى في 9/22، أما صيوفنا نحن آخر خمسة عشر عامًا فإنها تبتدئ من 2/15 إلى 2/14 من العام القابل، فهو مقيم سنة تامة وافية، 365 يومًا! فأنت فيه كأنما قد أُسقطت في قدر ماء، وأُلقي الغطاء من فوقك، وأُشعلت النار من تحتك، فالحر يصهرك، والرطوبة تغرقك! فأين تَفِرُّ؟!

أإلى البقاع الباردة نَفِرُّ؟! فتلك لم تعد باردة الشتاء، ولا معتدلة الصيف! بل إن صيفها ليتجاوز الأربعين درجة مئوية، بل إن حَرَّه ليشعلها نارًا وحرائق!

أم نَفِرُّ إلى النيل نتبرد من هوائه قليلًا قبل أن تعرض له العوارض؟! فلقد ذهبت ذات أصيل في يوم قائظ إلى النيل لعلى أصيب نفحة باردة، وروحًا عليلًا، فما بلغت النيل إلا راعتني منه ريح ساخنة تلفح وجهي كأنها آتية من فوق بركان جارٍ! فأنا جئت ألتمس برد النيل فإذا أنا والنيل نحتاج مبرِّدًا! هذا ولم يكن الصيف قد ابتدأ بعدُ بحساب الفلكيين!

فهل نفرّ إلى التقنية فنتبرد بها؟! ولئن فررنا إلى المبردات والمكيفات في البيوت والسيارات، فهل نكيف هواء الشوارع؟! وهل نكيف هواء المزارع لئلا ييبس الزرع في أرضه؟! وهل نكيف الهواء فوق الأنهار لئلا تبخرها الشمس؟!

أم هل نَفِرُّ إلى الموائل المريخية التى تبتنيها (ناسا) لرواد المريخ فنسكنها نحن ونعطل رحلة المريخ؟! فإن كان عند (ناسا) من التقانة والصناعة ما يعينهم على صنع موائل مريخية، فماذا عليهم لو ضربوا ذكرًا عن رحلة المريخ، وصنعوا لإخوانهم من أهل الأرض بموائل أرضية شبيهة؟! فإن حياة سبعة مليارات نفس تصهرهم الشمس أحق وأولى من سبعة نفر يرودون المريخ!

إقرأ أيضاً: خليها على الله!‎

أم هل نَفِرُّ إلى مناظرة بين الخصمين الجَدِلَيْن، علماء البيئة، وأرباب الصناعة؛ لعلنا أن نعقل شيئًا، أو نتدارك شيئًا يرفه عنا هذا العذاب، فإن علماء البيئة يقولون: إن هذا الحر المتعاظم إنما هو بما كسبت أيدي الناس، فقد أفرطوا على البيئة، فاجتثوا أشجارها التي هي رئة الأرض، وتوسعوا في المصانع والمراكب التى تطلق الأدخنة الدفيئة حتى أحاطت بالأرض وحبست حرارتها، وليتدارك البشر تلك المصيبة فليزرعوا كثيرًا من الأشجار عوضًا مما قطعوه، وليبادروا إلى الطاقة الخضراء بدلًا من الطاقة الأحفورية. وهذا كلام يُعقل ويُصدق، فإن الناس آخر مئة وخمسين سنة قد بغوا على البيئة من حولهم، ومُحال أن يعمل الناس هذه الأعمال الجِسام التى غيرت وجه الأرض ثم فلا يكون لها أثر على جو الأرض، وسيكون من الخير أن يمسك الناس عن إفساد البيئة، وقطع الشجر، ويعودوا إلى الطاقة النظيفة الخضراء، لكن لا أحد ضامن أن يبادر كافة البشر في كافة البلدان إلى ذلك، وليس من زعيم بأن الجو سيعتدل عاجلًا إذا التزم البشر توصيات العلماء! ويرد عليهم كبار المُصنِّعين: هوِّنوا على أنفسكم، وأقلوا علينا من اللوم، فإن ذنبنا في ذلك قليل، وإنما هي دورات زمنية تتعاقب على الأرض، تتغير فيها الأجواء، وتتبدل فيها الأحوال، فما كانت أراضٍ باردة تمسى مع قِلَّة المطر ولفح الرياح أراضٍ حارة، وما كنت تراها أودية جافة تصير أنهارًا جارية، وما كانت بالأمس صحراء جدباء تصبح وقد استحالت بالمطر مروجًا خضراء. وكلام هؤلاء كذلك يُعقل ويُصدق، وتقوم عليه أدلة وبراهين من بقايا تلك الحقب في دورات زمنية سابقة. ولعل الجمع بين الكلامين والحجتين يكون أنفع وأفهم، فربما هذه إحدى دورات المناخ قد وافق زمانها زمان الثورة الصناعية، فعجلت هذه بتلك، وتعاونتا كلتاهما على الأخذ بمخانق أنفاسنا. ولا نزال نحن، وهم، وهؤلاء أعجز من أن نستطيع حيلة أو نهتدى سبيلًا!

إقرأ أيضاً: العيال كبرت

أم هل نضرب عن ذلك كله، فنذهب نبترد بفيديوهات الشتاء الروسية، والبريطانية، والإسكندنافية فَنَفِرَّ من حَرٍّ صادق إلى وهم بارد!

كانت هذه شكوى العاجز للعاجز، وزفرة من لا يملك لمن لا يملك، وحديث من أكربته الرطوبة، وأصدعه الحر فذهب يرفه عن نفسه بالحديث يلقيه إلى بعض أهل مجلسه من حوله.

وإذ إن الكاتب، والقارئ، والعالم، وغير العالم عاجز مغلوب على أمره، فلا وجه لتسخط قدر الله، بل إلى الله نَفِرُّ فيرحمنا، فإنه لا منجى منه إلا إليه، وهذه آية لنا أننا لسنا نقدر على شىء من أمرنا، ولا نملك لأنفسنا ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا، بل إن الأمر كله لله، فنسأله أن يصلح لنا هواءنا، ويجعل شمسه علينا بردًا وسلامًا، وأن يفيض علينا رحمات الدنيا والآخرة، وأن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يجيرنا من نار جهنم، وأن يغفر لنا ما تسخطنا من قدره.