منذ عشرات السنين وكثير من الأحزاب والجمعيات والمفكرين في بلداننا يرفعون شعار (الديمقراطية هي الحلّ) وقد خاضت تلك الأحزاب والجمعيات نضالاً دؤوباً وتضحيات جساماً لتحقيق شيء من هذا الحل في مجتمعات بعيدة كلّ البعد عن هذا النهج في الحياة الاجتماعية التي تتقاطع في بلداننا تماماً مع مبادئ الديمقراطية، خاصة في جانبها الاجتماعي الذي يعدّ أساس بناء الديمقراطية السياسية، ناهيك عن الديمقراطية الاقتصادية وسوقها المفتوحة، وما يرتبط فكرياً وثقافياً بحرية الرأي والتعبير، ففي معظم بلداننا ومجتمعاتنا تغلب الثقافة القبلية والدينية على تفكير الناس وتعاملاتها مع مفردات الحياة إلى الدرجة التي يصفها الكثير أنها مجتمعات محافظة، هذه الثقافة المتكلّسة عبر قرون تتقاطع في أساسياتها مع النمط الغربي للديمقراطية، وتحصيل حاصل مع حرية الرأي والتفكير والتعبير عنهما، حيث تصطدم بجدران الممنوعات التي تفرضها هذه الثقافة، وهنا أتحدث أفقياً عن عامة الناس، وليس عن النظام السياسي الذي ربما يفرض نوعاً من هذه السلوكيات نظريا كما حصل في كلّ من العراق ومصر وسوريا والجزائر وتونس والسودان وإيران وحتى تركيا، التي تعدُّ نفسها مع إسرائيل أعرق ديمقراطيتين في الشرق الأوسط، وتتناسيان أن التطرّف والتحفظ الديني فيهما يتهم بالكفر أو الخيانة لكل مَنْ يعارضهما فكرياً أو دينياً.
هذا النمط من الثقافات الأفقية منع أيَّ حل من هذا النوع، ورفع شعار آخر عدً فيه الدين هو الحل، كما في شعار الأحزاب الدينية الإسلامية التي فشلت هي الأخرى فشلاً ذريعاً في مصر وتركيا وقبلهما إيران وافغانستان التي تحولتا إلى سجن رهيب يخضع لسلطات عسكرية وأمنية وميليشياوية، تعتمد القتل في أيّ توجُّه معارض باستخدام القواعد الدينية، باعتبار معارضتهم هي معارضة لعقيدة الله ودستوره، وهذا يكفي لإبادة أيّ معارض، وهو ما يجري الآن على أيدي بعض الفصائل والميليشيات بمحاولة تطبيقه في العراق، وباستخدام النهج الديني أو المذهبي ذاته.
هذه الجدران الدينية، وما يليها من جدران أخرى ترتبط بالمتوارث من التقاليد والأعراف القبلية والتي تتحكم في مفاصل مهمّة من حياة الناس، حتى أصبح هذا النظام يأمر وينهي، ويحكم في كثير من قواعد السلوك الاجتماعي، بل اندفع إلى مواقع القضاء ليكون بديلاً عنه، ناهيك عن دوره المفصلي في إيصال أصحاب هذه الثقافات إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية بأليات قبلية او فتاوى دينية، وقد بان ذلك بشكل واضح جداً في كل انتخابات مجلس النواب العراقي منذ 2005 وحتى اليوم، ناهيك عن الوضعية ذاتها حتى في العهد الملكي، وما تلاه في العهد الجمهوري بعد 14 تموز 1958م.
واليوم وبعد أكثر من قرن من الحكم والتجارب السياسية القاسية التي مرت بها معظم بلدان الشرق الأوسط يتضح أن مجتمعاته الحالية المرتبطة بشكل وثيق بالعادات والتقاليد التي يمتلك مفاتيحها رجال الدين والقبيلة، والتي لا يستغنى عنها لارتباطها الوثيق بكرسي الحكم الاجتماعي المطلق، ندرك ضخامة التحدّي التي تواجه قوى التغيير، ولا يمكن ان تمتلك ناصيته إلا من خلال نظام تسوده العدالة والمواطنة ويزدهر فيه العلم والمعرفة في نظام تربوي وتعليمي وثقافي مدني حديث.
وحتى يتحقق ذلك علينا البحث عن بديل يتناغم مع بيئتنا وقواعدها الاجتماعية، بما يحفظ العدالة ويصون مكانة الدين بفصله عن السياسة واحترام التركيبات القبلية ورموزها بإبعادها عن أي تدخل في النظام السياسي والقضائي.
كما ان من أهم ضرورات هذه المرحلة بعد تجارب البلاد المريرة سياسياً وعسكرياً هو منع أي تنظيم او نشاط سياسي في المدارس والجامعات والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والقضاء، بما يحصن وينأى المجتمع من أي تناحر أو انقسام يترك اثارا بالغة على نموه وتطوره قد يمزق نسيجه ويبعده عن أهدافه السامية في الارتقاء.
التعليقات