من خلال ما كتب، وأيضا من خلال أدواره في أحداث ثقافية عديدة، يمنحنا الكاتب المغربي محمد برادة صورة شبه متكاملة عن ذاته وعن عصره، وهذا أمر بديهي، عن ما فكر فيه وأنجزه، وعمل لأجله.
هي صورة تتماهى مع الأحداث المتداخلة للتاريخ المعاصر للمغرب، تحاول أن تمنح لنفسها معنى، متمتعة باستقلاليتها، تنطلق من التأريخ للذات المشاركة في التحولات لتتحول بدورها إلى تاريخ جماعي بقوة التكريس والإيثار ومشروعية الرغبة.
وهذه بعض ملامح هذه الصورة المتصلة بحياة محمد برادة:
من المقاومة والنضال السياسي إلى دور المثقف بمعناه العضوي، من درس الأدب ومعناه، والتزامه، إلى ولوج ساحة الصراعات لأجله، ولما يدعو إليه، من كتابة القصة إلى الرواية ونقدها، عبورا بالترجمة وتجديد اللغة والمفاهيم عبر المثاقفة وتلاقح الأفكار، من قيود الدوغمائية الأولى إلى الحرية في التعبير وتحرير الخيال، وصولا إلى الاحتفاء بالحياة وفن العيش وأساليب التواصل مع الكتاب من الأصدقاء، ومن الخصوم الموضوعيين، ومآلات هذا التواصل، وأنفاقه، تماما كما يحدث في كل حياة حقيقية.
في كل دور، وفي كل مرحلة من حياته، وهو ما تقدمه لنا هذه الصورة المتداخلة العناصر، يتقدم برادة ليقف في الطليعة. بنزعة قيادية ومؤسسة. بتماه يكسر الحدود مع مجالات عمله وانشطته وتعبيراته، دون تكلف، بانسيابية، وغالبا بثقة تلغي أو تناور الشكوك الذاتية، ولا تتفاعل بجدية مع حالات اليأس وموجات الإحباط . لدرجة يبدو فيها عمل برادة الثقافي المتعدد القطبية أشبه بمسؤولية أخلاقية، وشرط وجود، والتزام نهائي حاسم يأخذ منه كل الوقت والتفكير.
في الظاهر تبدو لنا صورة برادة وعلى هذا المنوال صورة منسجمة مع مكوناتها الداخلية، فقد تبلورت عناصرها مباشرة بعد خروج الاستعمار ودخول برادة إلى البلاد قادما من القاهرة في أوائل الستينات، وانسداد أفق الاستقلال في صورته المنشودة، لتقاوم هذه الصورة إرث الماضي وجذوره، ولتواجه معيقات الحاضر، وتحاول خلق وضع جديد لمجتمع مركب، يعاني من الأمية ومن توفير ضرورات العيش لغالبية سكانه، وحيث تحسين جودة الحياة وإحداث التغيير عبر الثقافة والفنون في ذيل أولوياته، لذلك فإن هذه الصورة كانت تعاني منذ البداية. وتبعا لذلك يتغذى الصراع بين المثال ونقيضه ومعيقاته في مشروع برادة. تتسع الهوة بين المأمول والمرتجى وواقع الحال المتخلف، وتتراكم الخسائر.
في هذا المشهد المعقد يمكن مع ذلك تسجيل حصيلة مشجعة لصالح مشروع الجيل الذي يمثله محمد برادة، منها على سبيل المثال: توسيع التعليم العالي رغم تقييدات الولوج والفلترة، وصعود نخب جديدة، وتحول الجامعة الى مستنبت للأفكار الحداثية، انتعاش الحركة الطلابية المتقدمة التي غذت الأحزاب والنقابات والسلطة أيضا بأطر جديدة، توسع التعبيرات الأدبية والفنية وتخلق وضع جديد لهوية ثقافية وأدبية مغربية أسهم اتحاد الكتاب حينها في بلورتها، انتفاع وسط عريض من الشباب من نتاج المرحلة الثقافي غذى الفكر المتحرر ووسع من نفوذ قوى أحزاب اليسار التي ستدخل الحكم في بداية التسعينات. وذلك قبل الهجمة المضادة التي ألغت التفكير النقدي وقلصت من مساحة السؤال عن قضايا ملموسة للمجتمع المغربي.
بهذا المعنى يعتبر برادة أحد المشاركين الكبار وصناع هذا الوضع. بل يقف في صفوفه الأولى. أشبه ببطل إشكالي يخرج من مخاضات مجتمعه بمكاسب مؤكدة، لكنها غير نهائية، بلا غنائم وبلا امتيازات. نظيفا كقطرة ماء سماوية.
لنتذكر، فقد عبر في تلك المرحلة أحمد المجاطي في قصيدة "السقوط" عن انسداد الأفق واستحالة تحقيق الحلم أمام آلة القمع. وكان عبد المجيد بن جلون قد رجع إلى طفولته، بينما صاحب "الماضي البسيط" عاد من حيث أتى. لكن برادة، ومنذ البداية، استخلص المعنى من كتابات فرانز فانون والاقتصادي محمد الحبابي. "المعذبون في الأرض" يعيشون بيننا وهم منا وينبغي تحريرهم وترقية حياتهم. عاش ملابسات العدوان الثلاثي على مصر وتجاوز المزاج السوداوي لهزيمة 1967 وأنصت لتعبيراتها الأدبية بحس نقدي وآمن بقوة وجدوى الأدب وارتبط بالقضية الفلسطينية بشكل عضوي وممنهج. ولم يكن إسناده لبدايات إدمون عمران المليح الأدبية الا تأكيد لولائه الفلسطيني المناهض للظلم. عاد إلى الرحم المتجدد الذي أنشأ كيانه وهو يكتب "لعبة النسيان" ونصوصا أخرى وابتكر لنفسه وضعا شرفيا خارج التدجين ولغة الطاعة. ما زال لديه الوقت ليواجه حياته الغنية بطموحها وليتأمل صورته ويستخلص منها الحكم والأسئلة الجديدة. ما زالت شعلة محمد برادة متقدة تضيء لنا الطريق.
التعليقات