كنت قد كتبت في هذا الموضع من هذا الموقع مقالة عنونتها "الشعاثة والشُّعثاء"، عِبت فيها على الغرب بدعًا ابتدعوها رأيتها تخالف الفطرة والسواء والقبول البصري من مثل العمارة الشعثاء للمباني التي تخالف السواء الهندسي الذي توافقت عليه الأمم في عمارتها، أو مخالفتهم السواء الفني في فنونهم التشكيلية، أو تَنَكُّبِهم الأناقة في أزيائهم وهيئاتهم وصورهم، لكني ها هنا أود إنصاف القوم ببعض ما رأيته من الجميل عندهم، فإنهم وإن كانوا شُعَثاء في ثقافتهم إلا أنهم قوم إذا رأوا جمالًا في البيئة من حولهم حفظوه وزادوا فيه، وإذا وقع بأيديهم أثر عتيق نفيس حفظوه وصانوه، فأنت إذا سافرت إلى أحد البلاد الغربية وسلكت في شوارعهم لم تقع عينك إلا على نظيف نظيم من الطرقات والأرصفة، فالقوم يعنون أشد العناية بأمر النظافة فلا كسرة تُلقى في طريق، ولا ورقة على رصيف، ولا نفاية تُقذف في غير محلها، وكذلك شأنهم في حفاظهم على الأنهار ومراوي المياه فلست تراهم يفسدونها بالجيف والقمامات والأقذاء، وهم قوم يتلذذون بجمال الطبيعة فتراهم يحافظون على كل خضراء نابتة في حدائقهم أو أحراجهم، فإن لم يجدوها استنبتوها استنباتًا وتعهدوها حتى تكون أشجارًا وارفة الظلال تفيء على الناس بظلها وثمرها وروحها، وكذلك من جميل ما يُذكر للقوم أنهم يحفظون للعتيق من الأشياء قيمته وقدره، فلست تجد أثرًا من الآثار يلطخه الجهال بالألوان، أو توقع عليه توقيعات الزائرين، أو تنقش عليه أسماء المحبين، فإن للحُسن عندهم حرمة يرعونها، ولِلَّطائف والطُّرَف والتحف هنالك قدرها المصون.

وأمم أخرى غير هؤلاء قد عرفتها فرأيت ثقافة القبح هي الغالبة على أهلها (إن جاز للقبح أن تكون له ثقافة)، فالناس هناك لا يحفظون قديمًا من الآثار، ولا هم يستَجِدُّون جديدًا من الجمال! بل إنهم إذا رأوا حَسَنًا أو نفيسًا كانوا كمن سقط في جفنه قذى من الأقذاء فليست تقر عيونهم حتى يسارعوا فينزعوه أو يفسدوه أو يطمسوه أو يبيعوه إن وجدوا له ثمنًا! فالشجرة العتيقة تقطع، والحديقة الفيحاء تُقلع، والمحل النظيف يُقَذَّر، والمنظر الحسن يُطمَس، والأثر العتيق يُعرض للبيع، فإن ذهبت إلى أحدهم لتثنيه عن ذلك فتقول له: "إن هذه الأشجار يستظل به ابن السبيل في يوم الحر، وإن هذه الحديقة تصفي الهواء ثم تنفثه لك باردًا نقيًّا، وهي مأوى الطير، وهي منظر يسر العين ويبهج القلب، وإن أخبرته أن هذا الأثر الذى يعرض للبيع إنما هو بمنزلة وثيقة ثبوتية للأمة"، لتبسم ساخرًا من خفة حِلمك ومن سفاهة عقلك، ثم لأجابك: "احييني النهاردة وموتني بكرة"، فهذا مذهب القوم في العيش، فليست تتذوق أحْسَاسُهم إلا الطعام، فإذا امتلأت منه بطونهم فليست تبالي من الدنيا بشيء بعده!

فالقبح هنالك ثقافة تعلو ولا يُعلى عليها، فكأن حس الجمال في نفوس الناس قد أُميت أو عُطِّل فليسوا يبالون ماذا يخسرون من الجمال والحسن، وليسوا يبالون بما فقدوا من نفائس الزمن.

ولعل بعض الناس أن يقول: إن ذلك لضيق ذات اليد، فالفقير إذا احتاج الدواء أو الغذاء أو الكساء فليس يبالي بجميل ولا نفيس، بل يبيع الكل بالثمن البخيس! وهذا صحيح في بعضه، ولكن في بعضه بعض نظر، فالفقر يحمل الناس حقًّا على التفريط وقلة الاكتراث بشيء إلا بضرورات العيش، لكنك ربما تبصر في الريف السحيق، وفي الواحات البعيدة، وفوق رؤوس الجبال بيوتًا فقيرة البناء والمتاع ولكنها تسر الناظرين بحُسن تنظيم أثاثها الزهيد، وبنظافة داخلها وخارجها، وبريحانة تنبت جوار بابها، وبشجرة خضراء تظل جدارها، ثم تبصر بيت من هو أيسر حالًا من أهل هذا البيت فتنقبض له نفسك، وتزدريه عينك، فهو مضطرب الأثاث، مستقذر المحل، فقير الزينة، فَسِعَة المال لم تورث صاحبها جمالًا في النفس، ولم تحمله على تحسين داره، والفقر لم يَحُلْ بين صاحبه وبين تجميل نفسه وبيته وبيئته، فالفقر هو في المقام الأول فقر حِسٍّ، وفقر ذوق، وفقر عقل، قبل أن يكون فقر مال.

إقرأ أيضاً: بنات الليل

وانظر إلى هذه الآثار العتيقة النفيسة التي هي بمنزلة شهادات ثبوتية للبلاد وأهلها يبيعها الصغار الفقراء بالجنيهات القليلة إلى هؤلاء السماسرة الكبار ليهربوها بالملايين الكثيرة إلى مقتنى التحف والطرف في أقطار الأرض! فإن قلنا إن الفقراء باعوها لما بهم من الحاجة والعوز والجهل، فما حاجة أثرياء القوم ووجهائه وعلمائه إلى التفريط فيما بين أيديهم من وثائق أمتهم؟! إن الفقر ها هنا فقر الذوق والحِسِّ قبل فقر المال، بل قد بلغ أن تَمُرَّ ببعض الطرقات فتجد مطروحًا على قارعتها تاريخ أسرة أو عائلة من بطاقات هوية، وصور أسرية، ورسائل إخوانية، ومذكرات خاصة، ومقتنيات عائلية عتيقة، فتتعجب في نفسك: كيف هانت هذه على أهلها ففرطوا فيها بعد قرن أو يزيد لتباع بثمن بخس جنيهات معدودة على قارعة الطريق؟! لكن يذهب عجبك إذا ما علمت أن فقر العقول وفقر الحِسِّ لدى هؤلاء حملهم على التفريط في وثائق أجدادهم ونفائس جداتهم!

إقرأ أيضاً: العيال كبرت

فهل من سبيل لرد هؤلاء إلى جادة الحُسن والجمال؟ أزعم أن حسم داء القبح كله جملة واحدة من النفوس عسير شاق، لا سيما مع الفقر والحاجة، لكننا إذا ألححنا في الإعلام والتعليم والوعظ الديني وندوات التثقيف على تقبيح القبح والتنفير منه، والحض على النظافة والجمال والحُسن، فإننا نستطيع (كما استطاع غيرنا) رد الناس إلى فطرة الجمال، وجلاء ما ران على القلوب من صدأ القبح والشناعة، وكذلك حض الناس على هوايات يحبونها مما يُستجلب به الجمال ويزال به القبح عن النفوس، فالهوايات تفتح عيون القوم وقلوبهم على الحُسن في ما حولهم فيحافظون عليه، وتُبصِّرُهم بالقبح والقبيح فيميطونه عن الأعين، فإن لم يستطيعوا إماطته امتنعوا عن إتيانه ومنعوا عنه غيرهم، فهاوي الصيد ستجده أول من يحافظ على نظافة النهر ويخشى عليه التلوث لئلا يفسد ماؤه وتهلك أسماكه فتضيع عليه هوايته، وهاوي التصوير تجده أحرص الناس أن يكون ما حوله جميلًا منظمًا ليعينه على هوايته فتخرج صورته جميلة حسنة لا قبيحة ولا شعثاء، وجامع الطوابع يقدر القديم ويهواه وإن كان قصاصة من ورق أو شطر ختم على طابع بريد ويعلم أنها على دقة جِرمها تنبئ عن أمم وأزمنة قد مضت وانقضت ما كان لنا أن نسمع بهم ولا بأخبارهم لولا هذه القصاصة أو ذلك الغلاف أو تلك الرسالة، فمن أجل ذلك تجده أَعرَفَ الناس بقيمة الآثار وأنها وثائق الأمة التي ينبغى صونها عن التلف والطمس. فأما إذا تُرِك الناس هملًا فلم تُشرب أفئدة الصغار بحب الجمال والحُسن والنظافة والنظام، ولم يُعلَّم الكبار الجمال في المعاهد والجوامع والإعلام، فسيكونون مسوخًا قبيحة الأنفس، تضيق صدورهم بالحُسن، وتزدري أعينهم الجمال، وتناله أيديهم "بالقُبح والقبائح"!