يدرك معظم الخبراء والمتخصصين أن أحد أهم أسس تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط يكمن في استعادة دور الدولة الوطنية وانهاء حقبة الميلشيات الإرهابية ، التي لعبت دوراً هائلاً في نشر الفوضى واثارة الاضطرابات في المنطقة. ولأن الميلشيات تتمحور في مجملها حول طرف اقليمي واحد هو النظام الإيراني، فإن ما يجري حالياً يفتح الباب امام امكانية انهاء دور هذه الميلشيات الإرهابية في إطار تخطيط إسرائيلي يتم تنفيذه بدقة لافتة في قطاع غزة ولبنان واليمن مع وجود توجه واضح للذهاب إلى مركز إدارة هذه الميلشيات ولجم قدرته على تهديد دولة إسرائيل وآخرين في المنطقة والعالم مجدداً.

وقد تزايدت التوقعات بانتهاء عصر الميلشيات الإرهابية عقب مقتل يحي السنوار زعيم حركة حماس الإرهابية ، ومن قبله حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني، وهما اللذان كانا يديران صراعاً دموياً عنيفاً مع دولة إسرائيل وشعبها طيلة الفترة الماضية، والدافع الأكبر لهذه التوقعات هو عدم وجود قيادات بديلة تمتلك القدرة على مواصلة المعركة وإدارة العنف والإرهاب ميدانياً.

المرجح أن غياب السنوار عن المشهد الغزاوي سيربك حركة حماس الإرهابية ويؤثر بدرجة تفوق تأثيرات عملية اغتيال اسماعيل هنية الرئيس الأسبق للحركة، لأن هنية لم يكن قائداً ميدانياً بل قائداً سياسياً، وبالتالي كان من السهل تعويض غيابه قيادات حركية تعيش في الدوحة أو غيرها، لكن السنوار كان يحمل رمزية معينة لدى عناصر الحركة الإرهابية ، ومن ثم فإن مقتله سيؤدي حتماً إلى تراجع الروح المعنوية وتراجع القدرات القتالية التي تلعب فيها المعنويات، وليس الأسلحة والعتاد، الدور الأبرز. وبالتالي فإن مقتل السنوار يمثل بالفعل أقصى ضربة وجهت لحركة حماس الإرهابية وربما تفوق في تأثيرها اغتيال زعيمها التاريخي أحمد ياسين، بالنظر إلى حساسية الظروف واللحظة التاريخية الراهنة المشحونة بالتعقيدات التي تعد الأسوأ من نوعها في تاريخ الشعب الفلسطيني.

الأمر كذلك تماماً بالنسبة لحزب الله اللبناني، حيث يلاحظ الفراغ القيادي الهائل الناجم عن غياب نصر الله، وعدم قدرة أي من أسلافه على شغل هذا الفراغ لاعتبارات تتعلق بالفترة الطويلة التي قضاها نصر الله في قيادة الحزب والخبرات التراكمية التي كونها في معادلات الصراع الاقليمي، فضلاً عن علاقاته القوية ومكانته البارزة لدى قادة النظام الايراني. ثمة نقطة في غاية الأهمية كذلك، تتعلق تحديداً بحركة حماس الإرهابية وهي افتقار الأجيال القيادية الجديدة في الحركة لأي علاقات مع الممول الإيراني، حيث بلغت هذه العلاقات ذروتها إبان فترة تولي السنوار قيادة الحركة الإرهابية ، حيث كان أبرز زعيم للحركة يمتلك علاقات تحالف قوية مع النظام الإيراني، وبغيابه يصبح من الصعب بناء علاقات بالقوة والثقة ذاتها، فضلاً عن أن الظروف لم تعد مواتية بالمرة لبناء علاقات تواصل جديدة مع أي من القادة الجدد، وبالتالي يمكن القطع بأن العلاقات التنظيمية بين قيادة الحركة الميدانية على الأقل وبقية شبكة الأذرع الايرانية لن تعود كما في السابق وربما لا تعود بالمرة.

في ضوء ماسبق إجمالاً، تبدو استراتيجية دولة إسرائيل الحالية التي تزامن بين البنيتين القيادية والتحتية في الميلشيات الممولة إيرانياً، فاعلة للغاية لأنها تكسر شوكة هذه الميلشيات الإرهابية وتحد من قدرتها على تجديد الدماء وتفقدها قدرتها على اعادة بناء قدراتها القتالية في الامدين القريب والبعيد، ولكن تبقى تساؤلات جوهرية حول بقاء واستمرارية هذه التنظيمات الإرهابية على الأرض ومدى امتلاكها القدرة على إعادة بناء نفسها وصناعة أجيال جديدة قد تكون أكثر عنفاً وتطرفاً في حال توافرت لها ظروف الحصول على التمويل والسلاح.

يتبقى في المجمل ذراعين مهمين لإيران في الشرق الأوسط هما جماعة الحوثي في اليمن والتنظيمات الطائفية الإرهابية في العراق، والأرجح أن جماعة الحوثي يمكن تدمير قدراتها العسكرية من خلال الضربات الأمريكية المكثفة، وقد لا تكون هناك حاجة لتدخل دولة إسرائيل بشكل مباشر،ومكثف في هذه المهمة، وإن كان من المهم القضاء على تهديدات هذه الجماعة الإرهابية في حال السعي لصياغة شرق أوسط جديد خال من أي تهديدات لأمن دولة إسرائيل. أما بالنسبة للميلشيات العراقية الإرهابية فهي تنظيمات فسيفسائية تمتلك مخزونات من الصواريخ والمسيرات إيرانية الصنع وتأتمر بأمر الحرس الثوري الإيراني، ولكن السيطرة عليها تبقى مسألة وقت وتبدو مرهونة بتحجيم النفوذ الايراني اقليمياً حتى يمكن للدولة العراقية الاضطلاع بدورها والسيطرة على هذه التنظيمات ومنعها من لعب دور الجيوش الموازية في دولة بحجم وثقل العراق.

المؤكد أن من الصعب القطع الآن بنهاية عصر الميلشيات الايرانية، ولكننا بالتأكيد نشهد بداية النهاية لهذه الصفحة البائسة من تاريخ المنطقة، لاسيما أن المسألة لا تتعلق فقط بالشق العسكري والأمني، بل لها أبعاد سياسية وأدوار سياسية يفترض أن تضطلع بها أطرافها، مثلما هو الحال في لبنان، فلا يكفي أن تدمر دولة إسرائيل على سبيل المثال القدرات والبنية التحتية والقيادية لحزب الله، بل يجب أن يتولى الساسة اللبنانيين استكمال مهمة انهاء الدور العسكري للحزب في الحياة اللبنانية، بعد الضربات القوية التي تلقاها الحزب عسكرياً وقيادياً، فضلاً عن الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها راعيه الإيراني، وحيث تبدو الظروف اقليمياً ودولياً مواتية تماماً لاستعادة سيادة لبنان، ولكن الإشكالية والمعضلة تبقى في استسلام بقية الأطراف اللبنانية للظروف ومعاناتها من الترهل والفساد والضعف وانحسار شعبيتها وقدراتها التنظيمية والإدارية وبالتالي عدم قدرتها على مل الفراغ الناتج عن تراجع دور الحزب أو بالأصح فقدانه السيطرة التي ظل يتمتع بها طيلة الحقبة الماضية، وهذ المشهد المأساوي قد يوفر الظروف ويهيئها امام حزب الله لاستعادة عافيته تدريجياً وقيادة المشهد اللبناني مجدداً.

خلاصة القول أن نهاية عصر الميليشيات ليس مرهوناً فقط بالقضاء على البنى التحتية والقيادية، بل يبدو مرهوناً بالأساس بتوفير ظروف بديلة أيديولوجيا وفكرياً وتنظيمياً وسياسياً تنهي قدرة هذه الميلشيات على استعادة عافيتها مجدداً سواء على المستوى الفكري أو التنظيمي او العملياتي.