لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار التطورات العسكرية في سوريا استكمالًا لانتفاضة ما سُمّي آنذاك بـ"الربيع العربي". والحقيقة أننا نعبر خريفًا لوحدة الأرض والشعب في ظل تعارك الأجندات الخارجية على تراب الوطن السوري الذي احتضن أربعين حضارة من تاريخ البشرية.

صحيح أن الشعب السوري، كما كل الشعوب المحيطة على الأقل، لديه مطالب محقة فيما يتعلق بالإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية، لكن عين الصواب السياسية ترى أن هذه العدالة لا يمكن أن تطل مع فوهات بنادق هيئة تحرير الشام "النصرة سابقًا" التي صنفتها الولايات المتحدة كتنظيم إرهابي.

الثابت في الرمال السورية المتحركة يمكن تلخيصه في التالي:
- الهجوم المباغت لهيئة تحرير الشام وبقية الفصائل المسلحة وسيطرتها على مدن استراتيجية مثل إدلب وحلب وحماة جاء بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار في لبنان، وأعطى تركيا دورًا رئيسيًا في قيادة ورسم ملامح المرحلة السياسية المقبلة في الإقليم المضطرب.

- ثمة من يرى أن سوريا تدفع فاتورة العودة إلى الحضن العربي، وأن ما يجري يعتبر بشكل أو بآخر بمثابة عقاب إيراني لدور الحياد الذي اتخذته دمشق خلال الحرب الإسرائيلية على حزب الله اللبناني، والتي انتهت باتفاق ينهي الدور المقاوم للحزب في جنوب لبنان.

- ثبت وبشكل واضح أن وحدة الساحات التي طالما راهنت عليها طهران لمشروعها "الهلال الشيعي" الذي تطل من خلاله على شواطئ البحر الأبيض المتوسط قد تفككت، أو ربما فُكِّكت في إطار مشروع أكبر إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أحدًا لم يفك طلاسم حقيقة العلاقة بين واشنطن وطهران.

- غاب الدعم العسكري الروسي بشكل ملفت، لا بل لم تتوانَ موسكو عن سحب قطع بحرية من ميناء طرطوس مع اشتداد المعارك واتساع رقعتها، وهنا لا يمكن إغفال رهان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في إخراجه من مستنقع الحرب مع أوكرانيا بصورة تليق بالتاريخ الإمبراطوري لموسكو. وذلك بعد أكثر من ثلاث سنوات من الدعم المالي والعسكري الذي تلقته كييف من إدارة بايدن.

- ظهرت مواقف عربية مساندة للحكومة السورية، عكسها تأكيد وزير الخارجية المصري "الدعم العربي للدولة السورية ووحدة أراضيها". وهو ما يمهد لأرضية تحرك عربي مؤثر في إطار الحل السياسي المنشود.

اليوم، سوريا تعبر مخاضًا وجوديًا، ومخطئ من يظن أن شظايا الحرب الدائرة لن تعبر الحدود بشكل أو بآخر، وتحديدًا باتجاه العمق اللبناني والعراقي. فاستقرار سوريا ضرورة إقليمية، كما هو ضرورة للحفاظ على وحدة الأرض والشعب والمضي في إجراءات عملية للحل السياسي مدعمًا بدور عربي مؤثر. لم تعد نقاشات رعاة مؤتمر أستانة (روسيا، إيران، تركيا) تلقى آذانًا صاغية مع المتغيرات المتسارعة في الإقليم، ومن غير المنطقي أن يبقى العرب مغيبين عن الحل السياسي وإرساء قواعد الاستقرار في سوريا والجوار.

ففي العراق، يبدو حتى الساعة أن حكومة محمد شياع السوداني تمسك بمفاصل قرار الحشد الشعبي والفصائل العراقية لجهة دخول الحرب، بيد أن الوضع في لبنان المنقسم عموديًا وأفقيًا يختلف تمامًا. ولم تمحُ الأيام ذاكرة اللبنانيين عندما خاض الجيش معارك ضارية ضد مقاتلي جبهة النصرة وداعش في جرود عرسال على الحدود الشمالية الشرقية للبنان.

ثم يبقى السؤال الأخطر: ماذا عن آلاف المقاتلين من تنظيم داعش؟ وماذا أيضًا عن مصير عشرات الآلاف من الدواعش في مخيمي الهول وروج في شمال شرق سوريا؟ ألا يعتبر هؤلاء قنابل متحركة فيما لو استفادوا من التحولات الدراماتيكية في سوريا وانتشروا في سوريا ودول الجوار؟!