لزمن طويل مثلت العلاقة السورية السعودية في ظل النظام الإقليمي وحتى الدولي محورًا أساسيا في استراتيجيات المملكة العربية السعودية. الآن مع إسقاط السلطة المزمنة الحاكمة في سوريا وبداية تشكيل نظامها الجديد ومع بوادر ظهور نظام إقليمي جديد ومع تركيز السعودية على تنفيذ رؤيتها المستقبلية لدورها كقوة إقليمية محورية وأحد مقرري السياسة الدولية في المنطقة على الأقل، تبدو سوريا الجديدة قد جاءت في الزمن السعودي الصحيح.

التحركات الأخيرة بين البلدين تفتح المجال لتحليل عميق حول ما يعنيه التوجه السعودي لرعاية إعادة تأهيل سوريا لتكون بلدا آمنا مستقرا وقادرا على النهوض من ويلات الحقبة السابقة، وكيف يمكن للسعودية استثمار موقع سوريا الجغرافي والسياسي لتحقيق الأهداف المشتركة و أهدافها الإقليمية.

التجربة السابقة مع العراق وخسارته لصالح إيران
لطالما اعتُبرت السعودية لاعبًا رئيسيًا في المنطقة، إلا أن تجربتها السابقة مع العراق كشفت عن فجوات استراتيجية. بعد سقوط نظام صدام حسين، كانت أمريكا تسيطر بشكل مباشر على العراق، وكانت تقرر كل شؤونه بما في ذلك جعله مسرحا للنفوذ الشيعي الإيراني، لكن السعودية أيضا تلكأت عن الدخول كلاعب في السياسة العراقية، وهذا نتج عنه ليس غياب العامل السعودي التام بل العربي كله لصالح إيران، التي استغلت ضعف التنسيق العربي وضعف التدخلية العربية وعدم ممانعة أمريكا دخولها بل موافقتها لتعزيز هيمنتها على العراق. هذه التجربة جعلت الرياض تدرك أهمية وجود شريك يعتمد عليه في الشام يمنع تكرار السيناريو العراقي، خاصة أن إيران التي عززت وجودها في سوريا عبر الحرس الثوري والميليشيات التابعة لها خلال سنوات، واستثمرت عشرات مليارات الدولارات للحفاظ على السلطة السابقة وعلى سوريا كمحافظة إيرانية، قد خرجت نهائيا من سوريا مع تحريرها.

فشل إدماج النظام السوري سابقًا في الجامعة العربية
كانت السعودية من بين الدول العربية التي دعمت عزل النظام السوري بعد قمعه للثورة الشعبية التي انطلقت في عام 2011 ثم ارتكابه المجازر الوحشية بحق السكان المدنيين. ومع ذلك، أسفرت سياسات العزل عن نتائج عكسية، إذ وجدت السلطة الساقطة قبل قليل، بدائل إقليمية ودولية عززت عزل الدول العربية عن التأثير في مجريات الأحداث سوريا وصارت أمريكا وروسيا وإيران وتركيا هم الفاعلين الأساسيين في الملف السوري الساخن. محاولات إدماج السلطة السورية السابقة في الجامعة العربية لاحقًا لم تكن ناجحة، وجاء إسقاطها في 8 كانون الأول (ديسمبر) وتحرير دمشق ليقدم هدية ثمينة ومفاجئة للسعودية كزعيمة للدور العربي وضمن سياق مختلف وأكثر استقرار واستدامة؛ فالسعودية عازمة على استثمار عودة سوريا لتعزيز الاستقرار في المنطقة، لا سيما مع تصاعد الحاجة إلى توازن عربي قوي أمام إيران وتركيا.

العمق الاستراتيجي لسوريا ورؤية 2030
مع دولة ناهضة يمكن أن تشكل سوريا بوابةً أو نقطة ارتكاز أساسية للنفوذ السعودي في الشرق الأوسط، فهي نقطة التقاء بين المشرق العربي والبحر المتوسط جغرافيا، وعودة سوريا مؤهلة وقوية للعب دور إقليمي بعلاقات قوية وشفافة مع الرياض يمنح الأخيرة فرصة ليس فقط لتعزيز نهوض البلاد الذي سينعكس إيجابا على اقتصاديات المنطقة وعلى رأسها الاقتصاد السعودي بل يعطي الرياض فرصة لاستغلال موقع سوريا الجيوسياسي لتنفيذ مشاريع اقتصادية وخطط بنية تحتية عابرة للحدود. رؤية 2030 التي تسعى لتعزيز مكانة السعودية كقوة اقتصادية إقليمية تتطلب تحييد التوترات الإقليمية، وإيجاد شراكات استراتيجية في دول مثل سوريا التي تشكل حلقة وصل بين الخليج وتركيا وأوروبا.

حفاوة استقبال وزير الخارجية السوري
كانت الزيارة التي قام بها وفد سعودي رفيع لدمشق ثم زيارة وزير الخارجية السوري الجديد إلى الرياض كأول دولة يزورها مؤشرًا واضحًا على أن الرياض تتبنى نهجًا جديدًا سريعا وحاسما في التعامل مع الملف السوري. الاستقبال الحار الذي حظي به الوزير السوري في أول زيارة له، عكس رغبة السعودية في طي صفحة سوريا القديمة وفتح آفاق جديدة للتعاون مع سوريا الجديدة. هذه الحفاوة ليست مجرد دبلوماسية رمزية، بل تحمل رسائل استراتيجية عن دعم سعودي لاستقرار سوريا واحتوائها في إطار عربي بعيدًا عن الهيمنة الإيرانية وحتى التركية.

الاجتماعات في الرياض وتكريس القيادة السعودية للملف السوري
الاجتماعات التي احتضنتها الرياض لمناقشة الوضع في سوريا بعد إسقاط السلطة البراميلية أكدت على قيادة السعودية للملف السوري، ليس فقط بوصفها قوة اقتصادية كبرى سيكون لها دور فاعل في إعادة الإعمار، وتأهيل قطاعات حيوية وضرورية وعاجلة كالصحة والتعليم، بل أيضًا كدولة قادرة على صياغة حلول توافقية بين الأطراف المختلفة. دعم السعودية لخيار الشعب السوري بقبول الإدارة الجديدة المؤقتة والمساعدة في رعاية عملية سياسية شاملة في سوريا يهدف إلى ضمان وحدة البلاد وإعادة تأهيلها اقتصاديًا وسياسيا، بما يتماشى مع رؤية الرياض لبناء نظام إقليمي متوازن ومستقر.

التنسيق السعودي التركي في سوريا
التقارب السعودي التركي يشكل ركيزة أخرى في إعادة تشكيل المشهد السوري. أنقرة، التي كانت خصمًا سياسيًا للسلطة السابقة الساقطة، ومع تبخر أوهامها في حكم بلاد عربية من خلال جماعة الإخوان المسلمين التي سطت على الربيع العربي، تبدي اليوم مرونة أكبر تجاه استعادة العلاقات العربية وعلى رأسها السعودية التي أدركت أن الشراكة معها خير من محاربتها أو استعدائها. هذا التنسيق يفتح المجال لإعادة صياغة مواقف مشتركة حول قضايا مثل إعادة الإعمار، وإعادة اللاجئين ومحاربة الإرهاب، وإيجاد صيغة توافقية للاندماج العسكري لقوات سوريا الديموقراطية مع الجيش المزمع تشكيله مما يعزز الاستقرار في المناطق الشمالية من سوريا ويزيل المخاوف التركية من بقاء الشمال السوري مصدر تهديد لها بسبب سيطرة حزب العمال الكردستاني التركي على مفاصل وقيادة قسد التي تحكم الجزيرة الفراتية وحوض الفرات.

رفع العقوبات وعدم الاعتماد على الغرب
رغم المؤشرات الإيجابية في العلاقات السورية السعودية، تظل العقوبات المفروضة على سوريا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عائقًا أمام جهود إعادة الإعمار. تدرك السعودية أن الحجج والمطالبات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي للإدارة الجديدة في سوريا بإطلاق عملية سياسية تحفظ حقوق الأقليات هي مجرد مزايدة سياسية لدخول الملف السوري والقدرة على عرقلة مضيه قدما نحو الاستقرار دون ضمان المصالح الأوروبية لذلك أحضرت جميع الفاعلين المحتملين أوروبيا إلى اجتماعات الرياض.

السعودية تدرك أن التعويل على الغرب في تقديم مساعدات لسوريا قد لا يكون خيارًا عمليًا، خاصة مع تراجع أولويات الملف السوري في الأجندة الغربية. بدلاً من ذلك، يمكن للمملكة استغلال منظومة مجلس التعاون الخليجي وعلاقاتها مع شركاء إقليميين ودوليين مثل الصين لتمويل مشاريع إعادة الإعمار.

ختامًا: فرصة تاريخية لتغيير قواعد اللعبة
الدور السعودي في قيادة سوريا الجديدة نحو التأهيل عربيا ودوليا يمثل فرصة تاريخية لتغيير قواعد اللعبة الإقليمية وهو دور ليس مرحب به فقط بل منتظر من غالبية السوريين. السعودية، التي تعلمت من تجربتها مع العراق، تدرك أهمية وجود شريك عربي قوي يعزز الاستقرار الإقليمي ودورها فيه. في المقابل، سوريا بحاجة إلى استثمارات ودعم سياسي يعيدها إلى الساحة الدولية.

إذا نجحت الرياض في قيادة هذا الملف بحنكة، فستثبت قدرتها على ملء الفراغ العربي، وتعزيز موقعها كقوة إقليمية وازنة. فالدور السعودي في سوريا الجديدة ليس مجرد خطوة تكتيكية، بل استراتيجية طويلة الأمد تستهدف بناء نظام إقليمي يعكس مصالح العرب قبل غيرهم.